ما أجملَ نورَ الضحى وبهاءَه بعد ظلمات الليل! وما أهدأ الليلَ إذْ يعقب النهار بحركته وصخبه، فإلى الغارقين في بحار اليَأْس، المنسحقين أمام بطْش الأعداء، لن ينْفعكم إلا الأمَل الموصول بالله، والتوكُّل على الله حقّ التوكُّل.
لا تخلو الحياة مِن أوقاتٍ تُحيط فيها الهمومُ بالإنسان من كلِّ جانب، وتَتَتَابَع عليه الشدائد، حتى لتضيق عليه الأرضُ بما رَحُبَتْ، بل إن نفسه التي بين جَنْبَيْه قد تتأبَّى عليه.
تلك حقيقة مُقَرَّرة بالتجربة والمشاهَدة، والتجربةُ والمشاهدة في كثير من الأحايين أصدقُ أنباءً مِن الكُتُب، وحينئذٍ فإنَّ الإنسان مُحتاج إلى مَن يبثُّه شعاعًا من الأمل، ويفتح له بابًا من الرجاء، ويدله على الطاقات الكامنة فيه، فما أتعس النفسَ حين يصيبها اليأس والضجر!
وسورة الضحى هي – بحقٍّ – لَمْسة حانية على القلوب البائسة، والنفوس الحائرة، ودفقة من الأمل في أن عَوْن الله ورعايته لا يتَخَلَّفان عن عباده المؤمنين الصادقين؛ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
لا تَبْتَئِس بما يقولون:
لقد كان نُزُول القرآن على قلْب النبي محمد صلى الله عليه وسلم خَيْرَ معينٍ له على مُواجَهة الصِّعاب، التي لا تنفكُّ عنه، والعقَبات التي تواجهه أينما راح، فكانت الآيات تَتَنَزَّل على قلْبه الطاهر، كأنما هي بَلْسَمٌ يمسح عنه عنَتَ المشركين وإيذاءَهم، فهي تشدُّ مِن أزْره وتصبِّرُه، وتذكر له مصير أقوام سابقين كَذَّبُوا رُسلَهم؛ فأَخَذَهُمُ اللهُ أخْذَ عزيزٍ مُقتدِر، فلا تحزنْ يا نبي الله، ولا تَبْتَئِس بما يقولون؛ {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
ولهذه الحكمة العظيمة كان القرآن الكريم ينزلُ منجَّمًا؛ حتى يُمدَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأسباب التأييد والتثبيت مع كل نازلةٍ تحلُّ به؛ فقال تعالى يردُّ على المشركين لَمَّا سألوا مستنكرين نزول القرآن على فترات متقطعة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
وكان جبريل عليه السلام قد أبطأ بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الرسالة؛ لسببٍ اختلفتْ فيه الروايات، فأصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من ذلك حزنٌ شديد، وساءَهُ أن ينقطع عنه – ولو قليلًا – النورُ الذي يربطه بالملأ الأعلى.
وما أنْ علِم كفَّار مكة بفُتُور الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقتْ ألسنتُهم بالشائعات: إن محمدًا قلاه ربُّه، وتخلَّى عنه، ورأوا في ذلك فُرْصة ليُكَثِّفُوا حملاتهم الدعائية الكاذبة؛ لعلها تفتُّ في عَضُد المسلمين، وتَصْرِف عنهم مَن يفكرون في الدخول في الإسلام.
ولَم تَكُنْ شائعات الكفَّار لتُحْزِن النبي صلى الله عليه وسلم مثلما أحْزنه فُتُور الوحي، فقد كان الوحي سلْواه في مُواجَهة المِحَن؛ وكما يقول الأستاذ سيد في “ظلاله”، فإن: “الوحْي ولقاء جبريل والاتصال بالله كانت هي زادَ الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقَّة الطريق، وسُقْياه في هجير الجُحود، وروحه في لَأْوَاء التكذيب، وكان صلى الله عليه وسلم يَحْيا بها في هذه الهاجرة المُحرِقة، التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة، ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، وعلى الإيمان، وعلى الهدى مِن طغاة المشركين.
فلما فتر الوحيُ انقطع عنه الزاد، وانْحَبَسَ عنه اليَنْبُوع، واستوحش قلبُه من الحبيب، وبقي للهاجرة وحده، بلا زاد وبلا ري، وبغير ما اعتاد مِن رائحة الحبيب الودود، وهو أمرٌ أشد مِن الاحتمال مِن جميع الوجوه، عندئذ نزلت هذه السورة، نزل هذا الفيض من الود والحب، والرحمة والإيناس، والقربى والأمل، والرضا والطمأنينة واليقين”[1].
ففي هذه الحال الدائرة بين ترقُّبِ نزول الوحي، وبين الحزن لما يُبَثُّ مِن أقاويل وافتراءات، نزلَتْ سورة (الضحى)، تبدأ بالقَسَم بالضُّحى وبالليل وسكونه وظلامه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1، 2]؛ لتضَعَ بين يدي المسلم صورةً مُتكرِّرة، يألفها الناس ويرونها كل يوم، فما أجملَ نورَ الضحى وبهاءَه بعد ظلمات الليل! وما أهدأ الليلَ إذْ يعقب النهار بحركته وصخبه، ويلفُّ الناسَ بسكونه وصمته! فجاءتْ الآياتُ لتُقَرِّر حقيقة ثابتة راسخة، واستدلتْ على ثبوتها ورسوخها ببعض مظاهر الكون التي يعيشها الناس ويلمسونها.
فكما يَتَتَابَع الليل والنهار في دورات متعاقبة، بحيث لا يدوم أحدهما؛ كذلك تَتَتَابَع أحوال الناس، ولا تدوم على صورة واحدة، فهي تدور بين الصِّحَّة والمرض، والغِنى والفقر، والرجاء واليأس.
المهم أن يَتَيَقَّنَ المسلم أنَّ مع العسر يسرًا، وأنَّ حالًا هو عليه يضجر منه، لن يدومَ – بإذن الله – لأنَّ مِن رحمة الله أن المِحَنَ تحمل في طياتها مِنَحًا، وأنَّ النور يُولد من رَحمِ الظلام والمعاناة.
وكما يقول ابن عطاء الله السكندري في حِكَمِه البليغة: “مَن ظنَّ انفكاك قدَره عن لُطفه، فذلك لقصور نظرِه”.
في الماضي زاد للحاضر:
جاءت السورة الكريمة لتُذَكِّر النبي صلى الله عليه وسلم بأحْوَالِه السابقة، وكيف أنَّ الله بفضله ومنِّه أبْدَلَهُ خيرًا من معاناته، وعوَّضه عما فاته؛ {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6 – 8].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتيمًا؛ فَقَدَ أباه وهو ما زال جنينًا في بطْن أمِّه، وماتتْ أمُّه وله مِن العمر ست سنين، ثم فَقَدَ جدَّه وهو في الثامنة من عمره، فآواه الله، وأحاطَهُ برعايته وحفظه.
وكان ضالًّا فهداه الله، واصطفاه للنبوة والرسالة، وهو صلى الله عليه وسلم وإنْ لَم يسجد لصنم قط قبل بعثته، إلا أن القرآن عبَّر عن حاله بالضلال؛ إذ إنَّ من معاني الضلال – كما ذكر الإمام محمد عبده في تفسيره -: اشتباهَ المآخِذ على النفس؛ حتى تأخذها الحيرة فيما ينبغي أن تختار، فالرسول صلى الله عليه وسلم نَظَرَ حوله قبل البعثة، فعرَف فساد دِين قومه مِن مشركي العرب، ومن ناحية أخرى كان حوله اليهود والنصارى، وكلاهما أصحاب دِين سماوي، لكنه كان في حيرة مِن أمْرهما أيضًا؛ لأنَّ شيئًا من الشرك كان يشُوب عقائدهم، وكثيرًا من السيئات والجرائم تدنس أعمالهم.
كذلك فهو صلى الله عليه وسلم في حيرة مِن قومه؛ إذ يراهم في سخافةِ عقائدهم، وتفرُّقِ كلمتهم، وتفانيهم بتسافُك الدماء، وتحكُّم الأجانب مِن الفُرس والروم فيهم، فيحتار في كيفية تقويمهم، وما الطريق الذي ينبغي أن يسلكه لإيقاظهم مِن سُباتهم”[2].
وكان صلى الله عليه وسلم فقيرًا، لَم يرثْ مِن والده إلا ناقةً وجارية، فأغناهُ الله بما ربح مِن التجارة، وبما وهبَتْه له زوجُه السيدةُ خديجة، التي كانتْ خيرَ رفيقٍ له ومُعين في دعوته وجهاده ضد عنَتِ قومه وتكذيبهم واستهزائهم به وبأصحابه.
فالسورة في هدَفها الأسمى تؤَكِّد للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذي أيَّدَك بنصْره وفضله فيما سبق من شدائد، هو – وهو وحده – الذي سيُعينك على ما نزل بك، فاطْلُب العون والمدَد منه وحده، واستَعِنْ به ولا تعجز، ولا تأسَ على ما فاتك، فلَئِنْ فاتك شيءٌ مِن حظِّ الدنيا، فإنَّ الآخرة خيرٌ لك مِن متاعها الزائل، وإنَّ لك عند ربك مقامًا محمودًا، ومنزلةً رفيعةً؛ {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 4، 5].
ثم هي تُخاطِب كلَّ مسلم، مِن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول له: استرجعْ شريط ذكرياتك، وتأملْ في محطات حياتك، ستَجِدُ أنك قد مرَّ بك مِن قبلُ شدائد، وألَمَّت بك خطوب، ثم جاء فرَج الله القريب دائمًا، فأذْهبَ الغَمَّ، وكشَف السوء، وأعاد للوجْه بسمته، وللقلْب سُرُوره، وللنفس راحتها وطمأنينتها.
وأسلوب القرآن في التذكير بالنِّعَم السابقة في الماضي، واعتبارها دليلًا وبشارةً على زَوال الكرُوب في الحاضر والمستقبل – ورد أيضًا في سورة (الشَّرح)، التي تكاد تتطابق مع سورة (الضحى) في مَضْمُونها، وأهدافها، ولمْسَتِها الحانية.
ولا عجب؛ فالمعنى الواحدُ في القرآن الكريم قد تتوالى عليه الآيات؛ لتُؤَكِّده وتوضِّحه، ومِن ثَمَّ فهي تفصِّله في موضع، وتُجْمله في موضع آخر، حسب ما يُمليه السياق، وما يتناسَب مع مقام النزول، وفي كلٍّ عبرةٌ لقومٍ يَتَفَكَّرون.
ونحن نُلاحظ أنَّ امتنان الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة “الضحى”، ينصبُّ على النِّعَم الحِسِّيَّة (الامتنان بالإيواء من اليُتم، والإغناء من الفقر)، بينما هو في سورة “الشرح” يقوم على التذكير بالنِّعَم المعنويَّة (الامتنان بشرْح الصدر، ووضْع الوِزْر، ورفْع الذِّكْر)، وكلاهما مِن فضْل الله ورحمته التي وسِعَتْ كلَّ شيء؛ فهو سبحانه جواد كريم، لا يَرُدُّ سائلًا، ولا يُخَيِّب رجاءَ مَن الْتَجَأ إليه؛ بل يُعطي السائلين أفضل مما سألوا وأمَّلوا.
أمَّتنا والأمل المفقود:
كما يكون مطلوبًا مِن الفرد أن يَتَرَسَّخَ عنده اليقينُ في الله، والأمَل في انفراج الأزمات، مهما استحكمتْ – كما تدلنا على ذلك سورة الضحى – وبالتالي يدْفعه هذا اليقين والأمل للإقبال على نواميس الله في الكون، والتعاطي معها بفَهْم ومسؤولية وبصيرة، فإنَّ هذا جديرٌ بأنْ يكون خُلقًا عامًّا في الأمَّة كلها، حتى لا تفقد الثِّقَة في ذاتها وطاقاتها، وحتى لا تذوبَ في الثقافات الأخرى، وتفقد شخصيتَها واستقلالَها وتميُّزَها.
فمهما تكاثرَت المِحَنُ على أمَّتِنا، وتوالتْ عليها الخُطُوب، وتحزَّب عليها العداءُ مِن كل حدب وصوب – يجب أن نعلمَ علْمَ اليقين أنَّ الله ناصرٌ دِينَه، ومُعْلٍ كلمتَه، ومُؤَيِّد جُنده، وأن هذا الدِّين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار؛ كما جاء في الحديث الشريف[3]، بشَرْط أن نُحسن التوَكُّل على الله، وأن ندركَ حقيقة الرسالة المنوطة بنا، ونستوفي شُرُوط الخَيْريَّة التي شرَّفَنا الله بها.
فسُنَنُ اللهِ في النُّهُوض أو السقوط لا تُحابي أحدًا، وشروطه في التمكين لا تَنْحَصِر في زمان ولا مكان؛ لأن وعْده بالتمكين يَسْري إلى قيام الساعة، وهو مُتحَقِّق متى صادفَ جُنْدَ اللهِ الصادقين العاملين؛ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
إنَّ أمَّتنا قد تَمْرَض لكن لا تموت، وقد تُهزَم لكن لا تُسْحَق، وقد يُصيبها ما أصاب الأُمَم السابقة من الضَّعف والانكسار، غير أنها تَظَلُّ الأقْدَرَ مِن غيرها على حشْد الصُّفُوف من جديد، وطيِّ صفْحة الهزيمة بسرعة لا نظير لها في تاريخ الأمم والحضارات الأخرى.
فإلى الغارقين في بحار اليَأْس والقنوط، المنسحقين أمام بطْش الأعداء، لن ينْفعكم إلا الأمَل الموصول بالله، والتوكُّل على الله حقّ التوكُّل، والاعتصام بحبْلِه المتين، واليقين بأنَّ الآخرة خيرٌ مِن الأولى، ولكم في رسول الله وسيرته العطرة أسوةٌ حسنة، ولَسَوْفَ يُعطيكم ربُّكم ما تَرْجُون.
[1] “في ظلال القرآن”، ج6 ص3926 ، دار الشروق، ط31، 2002م. [2] راجع: “تفسير الفاتحة وجزء عم”، ص 109، 110، سلسلة الذخائر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتاب رقم (162)، ط 2007م. [3] روى تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: ((لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخَله اللهُ هذا الدِّين، بعزِّ عزيز، أو بذُلِّ ذليل؛ عزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكفر))؛ أخرجه الإمام أحمد، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
_________________________________________________________
الكاتب: السنوسي محمد السنوسي
Source link