إن الزلازل والبراكين، والعواصف والفيضانات، وما نراه ونشاهده من كوارث حلَّت ببلاد كثيرة هذه الأيام – لَهِيَ آيات من آيات الله تعالى الدالة على قدرته، وعظمته سبحانه وتعالى، ولنا معها وقفات وعِظات وعِبَر.
أيها المسلمون عباد الله، إن الزلازل والبراكين، والعواصف والفيضانات، وما نراه ونشاهده من كوارث حلَّت ببلاد كثيرة هذه الأيام – لَهِيَ آيات من آيات الله تعالى الدالة على قدرته، وعظمته سبحانه وتعالى، ولنا معها وقفات وعِظات وعِبَر.
أولًا: إن ما يحصل في هذا الكون هو بعلمه سبحانه وتعالى، وقد قدَّره، وكَتَبَهُ، ومشيئته نافذة جل في علاه.
قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
ثانيًا: مَن ماتَ من المسلمين من زلازل الدنيا، أو مات بالغرق، والهدم، فهو شهيد:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله».
وفي صحيح مسلم: «والغريق شهيد».
الغريق: سواء أكان غريقًا في البحر، أو النهر، أو غريقًا في السيول والفيضانات، فكل هؤلاء شهداء.
وصاحب الهدم: يعني الذي انهدم عليه البناء، كمن انهدم عليه بيته؛ بسبب هذه الزلازل.
ثالثًا: إن كثرة الزلازل، والأمور العِظام من علامات الساعة:
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يُقبَض العلم، وتكثُرَ الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهَرْجُ –وهو القتل– حتى يكثر فيكم المال فيفيضَ».
وعن عبدالله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه، قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، وقال: «يا بنَ حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة، فقد دَنَتِ الزلازل، والبلابل، والأمور العظام، والساعة يومئذٍ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك»؛ (صححه الألباني).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكثُر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القومَ، فيقول: من صُعِقَ قبلكم الغداة؟ فيقولون: صُعِق فلان وفلان».
رابعًا: الزلازل الحسية لا تُنْسينا الزلازل المعنوية:
قال ابن رجب رحمه الله تعليقًا على حديث البخاري: «وتكثر الزلازل»، قال: “أما كثرة الزلازل، فهو مقصود الإمام البخاري، والظاهر أنه حَمَلَهُ على الزلازل المحسوسة؛ وهي ارتجاف الأرض وتحريكها، ويمكن حَمْلُه على الزلازل المعنوية؛ وهي كثرة الفتن المزعجة الموجبة لارتجاف القلوب“.
قال الله تعالى عن المؤمنين في يوم الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 9 – 11].
فقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا} ليس المراد زلزلة الأرض حقيقة، وإنما المراد زلزلة القلوب من شدة الكروب، ومن شدة الخطوب التي أحاطت بهم من كل مكان.
وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
فالقلوب – يا عباد الله – تتزلزل بكثرة المصائب، وتتزلزل بكثرة الدواهي، وتتزلزل بالشرك والبِدع، والكبائر والمعاصي والمنكرات.
فانتشار الشرك زلزال عظيم.
وانتشار السحر والشعوذة، والبدع والقتل زلزال عظيم.
وانتشار اللواط والزنا، والكذب والغش، والخيانة والسرقة، والظلم وشهادة الزور – زلزال عظيم.
وقطيعة الأرحام، والعقوق، وشرب الخمور والمخدرات، والتبرج والسفور والاختلاط، والأغاني – زلزال عظيم.
فكم – يا عباد الله – من زلازل في الأسواق والشواطئ والمتنزهات! فكل هذه زلازل تهُزُّ القلوب صباحَ مساء، فلماذا لا ننتبه لها، ولا نتحدث عنها، ولا نخاف منها كخوفنا من الزلازل الحسية، مع أن الزلازل المعنوية هي سبب الزلازل الحسية، وسبب الدمار والهلاك في الدنيا والآخرة؟
فالشدائد والكروب، والمعاصي والذنوب زلازل معنوية في الأرواح والقلوب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
خامسًا: زلازل الدنيا تُذكِّرنا بالزلازل الأُخْرَوِيَّة الكبرى، وتذكِّرنا بأهوال الآخرة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1، 2].
وقال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 1 – 5].
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلً} ا ﴾ [المزمل: 14].
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 6، 7].
وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21].
وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 105 – 108].
وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 13 – 16].
وقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 1 – 6].
وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 1 – 5].
موقف أهل الإيمان من هذه الزلازل والكوارث والفيضانات:
أيها المسلمون عباد الله، فإن الواجب علينا عند وقوع مثل هذه الزلازل والفيضانات، وغيرها من الكوارث والآيات العظيمة عدة أمور؛ منها:
1- الدعاء والتضرع إلى الله تعالى:
قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
2- أن نحمَد الله الذي عافانا من مثل هذه الكوارث:
ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى مبتلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، لم يُصِبْه ذلك البلاء».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال».
3- الخوف من الله تعالى، ومن حلول غضبه وعقابه، وأن نخاف أن تحل بنا مثل هذه الكوارث:
قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97، 98].
وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 16 – 18].
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى غَيمًا أو ريحًا، عُرِف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيم فرِحوا؛ رجاءَ أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته عُرِف في وجهك الكراهية، فقال: يا عائشة ما يُؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24].
ولما زُلْزِلت الأرض على عهد عمر رضي الله عنه، قام فخطب الناس ووعظهم، فقال: “أحدثْتُم؟ لقد عجلتم، لئن عادت، لأخرجنَّ من بين ظهرانيكم لا أساكنكم فيها”؛ [رواه البيهقي].
4- التوبة، والاستغفار، والإنابة إلى الله تعالى، والمبادرة بالإقلاع عن الذنوب والمعاصي:
فإن من أعظم الأسباب الشرعية لحدوث مثل هذه الأعاصير والكوارث المهلِكة، هي الذنوب والمعاصي.
كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
فعلينا – يا عباد الله – التوبة الصادقة، والاستغفار والتضرع إلى الله تعالى.
فإن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
فلا ينبغي أن يكون حالنا مع هذه الكوارث هو مجرد تناقل الصور، ومتابعة الأخبار فقط، بل لا بد من وقفة مع أنفسنا لنتوب إلى الله تعالى، ونرجع ونتضرع إليه سبحانه وتعالى.
قال قتادة رحمه الله: “إن الله يخوِّف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون، أو يذَّكَّرون، أو يرجعون، ثم قال: ذُكِر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعْتِبوه؛ أي: اطلبوا منه أن يُزِيل عَتَبَهُ، بترك الذنوب، والتوبة النصوح”.
قال ابن القيم رحمه الله: “قد يأذن الله سبحانه للأرض في بعض الأحيان بالتنفس، فتحدث فيها الزلازل العِظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة، والإقلاع عن معاصيه، والتضرع إليه والندم”.
فحرِيٌّ بالمؤمن العاقل أن تكون مثل هذه الزلازل والكوارث التي تحدث بين الحين والآخر في هذا الزمان – سببًا لمبادرته بالتوبة والندم، والخوف من الله تعالى.
نسأل الله العظيم أن يردنا إلى دينه ردًّا جميلًا، وأن يتوب علينا أجمعين.
________________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي
Source link