منذ حوالي ساعة
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن كل من تاب توبة صادقة قبل الله تعالى توبته، وغفر ذنبه؛ فالله سبحانه رؤوف رحيم جواد كريم، تسبق رحمته غضبه، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره لكل من تاب، وعلى قدر صدق الإنسان في التوبة يكون الثبات عليها، والتوبة من شعب الإيمان، والإيمان إذا خالطت بشاشته – الفرح والانبساط والملاطفة، وبشاشة الإيمان: فرح قلب المؤمن به وسروره – القلب فرح وسرَّ ولا تخرج منه.
: (16/ 58) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “جموع الفتاوى”
“فالتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش، وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب، فهذه التوبة النصوح وهي واجبة بما أمر الله تعالى، ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضًا، ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يُصرَّ؛ بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله يحب العبد المفتن التواب”، وفي حديث آخر: “لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار”، وفي حديث آخر: “ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة””. اهـ.
أما هل الأفضل تذكر الذنب أم نسيانه، فإنه يختلف من شخص لآخر؛ فإن كان التذكر يجعل القلب يلتفت إلى الذنب مر أخرى، ويحن إلى الذنب:- فقلأفض حينئذ نسيان الذنب أو تناسيه وقطع الاسترسال في تفكره؛ مع تغليب الثقة في الله وحسن الظن به.
وأما إن كان تذكر الذنب يعقبه تجديد التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة، فهو الأفضل بلا شك، ولكن دون استدعاء من العبد للذنب، ولكن إن هجمت عليه الخطرات أعقبها بالتوبة والانكسار لله، مع الابتعاد عن أماكن المعصية وهجرها.
قال ابن تيمية شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى“: (10/ 325)
“أن الإنسان قد يستحضر ذنوبًا فيتوب منها، وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه، لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبًا؛ لأن التوبة العامة تتضمن عزمًا عامًا بفعل المأمور وترك المحظور، وكذلك تتضمن ندمًا عامًا على كل محظور”. اهـ.
وقال الإمام ابن القيم في “مدارج السالكين“: (1/ 162)
“فإذا طالع جنايته شمر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل، وتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم، وطلب التمحيص، وهو تخليص إيمانه ومعرفته من خبث الجناية، كتمحيص الذهب والفضة، وهو تخليصهما من خبثهما، ولا يمكن دخوله الجنة إلا بعد هذا التمحيص، فإنها طيبة لا يدخلها إلا طيب؛ ولهذا تقول لهم الملائكة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وقال تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، فليس في الجنة ذرة خبث، وهذا التمحيص يكون في دار الدنيا بأربعة أشياء: بالتوبة، والاستغفار، وعمل الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، فإن محصته هذه الأربعة وخلصته كان من {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32]، يبشرونهم بالجنة، وكان من الذين تتنزل عليهم الملائكة عند الموت { أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 – 32]”. اهـ.
وفي المصنف لابن أبي شيبة: عن يونس بن خباب قال: قال لي مجاهد: ألا أنبئك بالأواب الحفيظ، قلت: بلى، قال: هو الذي يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله منه. انتهى.
هذا؛ وينبغي لك أن تحمد الله على نعمة التوبة والهداية، وألا تلتفت لتلك الوساوس حتى لا تفسد عليك حالك، ولتصدق اللجوء إلى الله تعالى بطلب والعون على الهداية والثبات على الطاعة؛ فإنّ الله تعالى إذا هَدى العبد إلى الصراط أَعانَه على طاعته وترْك معصيته، فلم يُصِبْه شرٌّ لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ ولهذا كان دعاء: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 – 7]، أنفَع الدعاء وأعظمه وأحكمه؛ لأن الذنوب من لوازم النفس البشرية، والإنسان محتاج إلى الهدى كلَّ لحظة أكثر من حاجته إلى الطعام والشرب؛ ومن ثمّ أمَر بهذا الدعاء في كلِّ صلاة لفرط الحاجة إليه، حتى يحصل له الخير ويدفع عنه الشر.
وكذلك قراءة القرآن العظيم بتدبُّر، مع استشعار عظمته تعالى، فهو أعظم ما يقوي الخوف من الله – عزَّ وجلَّ – في القلب، هو:وأنه يعلمُ سرَّ العبد وجَهْرِه، فهو أفضل ما يحمل صاحبه على ترك الذنب، ولخوفه من عقاب الله ومكره، ورجاءً لما أعده لعباده المؤمنين؛ قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].
و”الخوف من الله هو الحاجز الصُلْب أمام دَفَعَات الهوى العنيفة، وقلَّ أن يثبَتَ غيرُ هذا الحاجز أمام دَفَعَات الهوى” كما قال صاحب “الظِّلال”.
فمن علم أنَّ الحَفَظَة الكاتبين يراقبون أعماله، وأنَّه حيثما حلَّ مُتَابَعٌ، وأنَّ طريق الهروب من الله مسدودٌ، ولا حيلة له إلا الاستسلام والانقياد والإقبال على طاعة الله، والاستفادة من المهلة الممنوحة له؛ إذ لا يدري متى يتخطَّفه الموتُ، ويصير إلى ما قدَّم،، والله أعلم.
Source link