الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فأول واجب فرضه الله سبحانه وتعالى على العبيد هو الإقرار بوحدانيته سبحانه وتعالى، وتوحيده في إلاهيته أي إفراده بالعبادة وحده سبحانه، فالله تعالى خلق الخلق لعبادته، وأخذ عليهم الميثاق به، وفطرهم على الإسلام، وأرسل رسله بالدعوة إلى توحيده، والتحذير من الشرك، وبه يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فتوحيد العبادة -أعني توحيد القصد والطلب – هو أصل دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وعبادة الله وحده لا شريك له متضمنة لكمال حبه وكمال الخضوع والذل له، والإجلال والتعظيم، ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى؛ قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين}[الذاريات: 56 – 58]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
والعبادات لا بد في لها من أصلين: إخلاص الدين لله، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله، فلا يقبل الله من العمل الصالح إلا بهذين الشرطين، وهو معنى شهادة ألا إله إلا الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (1/ 333-334): “وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان الأصلان هما تحقيق ” شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة؛ وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول في دعائه له: “اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى: 21]، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، وفي لفظ في الصحيح: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”، وفي الصحيح وغيره أيضا يقول الله تعالى: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء؛ وهو كله للذي أشرك”.
ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف؛ كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبَّل الحجر الأسود وقال: “والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك”.
إذا تقرر هذا، فالواجب عليك تحقيق التوحيد الخالص لله؛ بإفراده سبحانه بجميع أنواع العبادات القلبية، من الحب الخوف والرجاء والتوكل والاستعانة، وغيرها والبدنية كالصوم والصلاة والذكر وقراءة القرآن، وغيرها من شرائع الإيمان وشعبه؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان”، وفي رواية عند مسلم: “الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”.
ولتحقيق التوحيد والإخلاص في العمل عليك بأعمال السر؛ فإنه يورث الإخلاص، مع قراءة القرآن بتدبر وتأمل؛ فالله – تعالى – يقول: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، مع عرض النفس على كتاب الله تعالى لا سيما سورة براءة وسورة محمد، وسورة المنافقين، فإن فيهم فضح للنفاق والمنافقين، وبيان لأعمالهم التي يجب على المسلم الحق اجتنابها والتمسك بما يضادها من صفات المؤمنين الصادقين.
هذا؛ وقد وردت في السنة بعض صفات المنافقين؛ ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر))، وفيهما عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
وروى ابن خزيمة في “صحيحه” – بإسناد حسن – عن محمود بن لبيد، قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((يا أيها الناس، إياكم وشِركَ السرائر، قالوا: يا رسول الله، وما شِركُ السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته جاهدًا؛ لما يرى من نظر الرجال إليه، فذلك شرك السرائر)).
قال الحافظ ابن رجب: “واعلم: أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون الرياء محضًا؛ بحيث لا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله – عز وجل -: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه في أصله؛ فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضًا، كالحديث السابق: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك)).
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله – عز وجل – فليطلب ثوابه من عند غير الله – عز وجل – فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)).
وخرج النسائي بإسناد جيد، عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – أن رجلا جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا شيء له)). فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا شيء له))، ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغي به وجهه))”. اهـ.
ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين.
أما الاعتصام بالله فيتحقق بأمور منها:
الابتِعاد عن المعاصي والذنوب جملةً، والتوبة النصوح عند الذنب.
منها: المحافظة على واجبات الشريعة، لا سيَّما الصلاة في جماعة في أوقاتها، وعدم التفريط في شيءٍ منها، مع الالتِزام بسائر أحكام الشرع؛ فالله – سبحانه – يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]، أي: ما وظف عليهم في كلِّ وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفَّروا نفوسهم للقِيام به وتكميله، ورتَّب ما يحصل لهم على فعل ما يُوعَظون به الهداية إلى صِراط مستقيم، وهي متضمِّنة للعلم بالحق ومحبَّته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمَن هُدِي إلى صراط مستقيم فقد وُفِّق لكلِّ خير، واندَفَع عنه كلُّ شر وضير.
منها: قراءة سيرة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وقصص الأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين، ففيها عِبَرٌ وحياةٌ للقلب؛ كما قال – تعالى -: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
ومنها: عدم الانبساط مع أهل المعاصي، والانعزال عنهم شعوريًا لمن يحتاج إلى الاختلاط به، هذا ما أرشد إليه الأئمة؛ قال الإمام ابن القيم في كنابه “مدارج السالكين” (2/ 338):
“… فهو حفظ حالك وقلبك مع الله، ودوام إقبالك عليه بقلبك كله، فأنت معهم مسترسل بشبحك ورسمك وصورتك فقط، ومفارقتهم بقلبك وسرك، مشاهدا للمعنى الذي به حياتك، فإذا فارقته كنت كالحوت إذا فارق الماء، فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح، فإذا فات العبد علته الكآبة، وغمره الهم والغم والأحزان، وتلون في أفعاله وأقواله، وتاه قلبه في الأودية والشعاب، وفقد نعيم الدنيا والآخرة”.
وقال الإمام أبو عمر ابن عبدالبر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (17/ 446)
“وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين ظهرانيهم، ذكر ابن المبارك قال حدثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس قد وقعوا فيما فيه وقعوا، وقد حدثت نفسي أن لا أخالطهم، فقال: لا تفعل؛ إنه لابد لك من الناس ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعًا أعمى بصيرًا، سكوتًا نطوقًا، وقال ابن المبارك في تفسير العزلة أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت”.
في الأدب المفرد للبخاري: عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “يا أبا بكر، للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل”، فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟” قال: قل: “اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم”، وصححه الألباني.
ومن أيقن هذا ازداد خوفه من طرائق الشياطين في صد الناس عن سبيل الله، فسعى في نجاة نفسه، وأصدق اللجوء إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء بالعافية من الشرك، وأقبل على الله بالعبادة والطاعة وتوكل عليه؛ قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه.
وستجد على موقعنا مواد صوتية كثيرة تعينك على تعلم دينك،، والله أعلم
Source link