منذ حوالي ساعة
الناظر والمتأمل في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ـ في حياته عامة وقبل وفاته خاصة ـ، يرى فيها حرصه الشديد عليها، ورحمته وشفقته بها، وقد حملت الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته الكثير من هذه الوصايا، ومنها:
وصف الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوصاف التي تدل على رحمته بأمته وحرصه عليها، ومن ذلك قوله سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. قال ابن كثير: وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم.
والناظر والمتأمل في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ـ في حياته عامة وقبل وفاته خاصة ـ، يرى فيها حرصه الشديد عليها، ورحمته وشفقته بها، وقد حملت الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته الكثير من هذه الوصايا، ومنها:
وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار:
بلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار مبْلغاً أن تمنى أن كان واحداً منهم، حتى أن البخاري جعل باباً في صحيحه بعنوان: باب حب الأنصار من الإيمان. وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأيام أوصى أصحابه وأمته بالأنصار، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (.. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي (بطانتي وخاصتي)، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» (رواه البخاري).
إحسان الظن بالله:
قبيل موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام أكد على إحسان الظن بالله وأوصى به، فعن جابر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل» (رواه مسلم).
ولذلك يُستحب لمن حضر أحداً في مرضه قبيل موته أن يكثر له من آيات وأحاديث الرجاء في الله وسعة رحمته، قال ابن حجر: وأما عند الإشراف على الموت (الاقتراب من الموت) فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء، لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر، فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله».
الصلاة، الصلاة:
الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، وكانت قُرَّة عين النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ما كان به صلى الله عليه وسلم من ألم ووجع من شدة مرضه قبيل وفاته، فقد أوصى بالصلاة كثيراً، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانت عامَّة وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة، وما ملكتْ أيمانُكم، حتى جعل يُغرغِر بها في صدره وما يُفيض بها لسانه» (رواه أحمد).
وعن علي رضي الله عنه قال: (كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم) (رواه أبو داود). قال السندي: قوله: (آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في الأحكام، وإلا فقد جاء أن آخر كلامه على الإطلاق: الرفيق الأعلى .. (الصلاة): أي الزموها واهتموا بشأنها ولا تغفلوا عنها، (وما ملكت أيمانكم): من الأموال أي أدوا زكاتها.. ويحتمل أن يكون وصية بالعبيد والإماء، أي: أدوا حقوقهم وحسن ملكتهم..قوله: (حتى ما يفيض بها لسانه) أي ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه. وقال ابن الأثير: (كان آخر كلامه: الصلاة وما ملكت أيمانكم) يريد الإحسان إلى الرقيق، والتخفيف عنهم، وقيل: أراد حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي.
إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإكرام الوفود:
قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأيام قليلة أراد أن يكتب للصحابة كتاباً مفصلاً ليجتمعوا عليه ولا يتنازعوا، فلما اختلفوا عنده، تراجع عن كتابة ذلك الكتاب وأوصاهم بأمور ثلاثة: إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإكرام الوفود، ونسي راوي الحديث واحدة منها، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (لما حُضِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» ، فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو، والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: قوموا (عنِّي)، قال عبيد الله (راوي الحديث عن ابن عباس، وهو ابنه): فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: إن الرزية (المصيبة) كل الرزية، ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) (رواه البخاري ومسلم).
قال النووي: قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في أَوَاخِر كتابه دلائل النبوة: إِنَّما قصد عمر التَّخْفيف على رسول الله صلى الله عليه سلم حِين غَلَبَهُ الوجع. وقال ابن حجر: قال القرطبي وغيره: ائْتُوني بكِتاب (رواية أخرى): أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]،وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله، وظهر لطائفة أخرى أن الأوْلى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمنه من زيادة الإيضاح، ودلَّ أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا.
وقال ابن حجر في الوصية الثالثة التي نسيها راوي الحديث: قال الداودي الثالثة: الوصية بالقرآن وبه جزم ابن التين، وقال المهلب: بل هو تجهيز جيش أسامة وقواه ابن بطال.. وقال عياض: يحتمل أن تكون هي قوله: (ولا تتخذوا قبري وثنا).. ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله: (الصلاة وما ملكت أيمانكم).
التحذير من بناء المساجد على القبور:
عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: (لما نُزِلَ (مرض الموت) برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِق (جعل) يطرح خميصة (ثوب) له على وجهه، فإذا اغتم (احتبس نفسه) كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مثل ما صنعوا) (رواه البخاري).
وعن جندب رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» (رواه مسلم).
وعن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فذكرت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (رواه البخاري).
قال ابن حجر: وكأنه صلى الله عليه وسلم علِم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يُعَظَّم قبره كما فعل منْ مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم. وقال ابن رجب: هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى. وقال القرطبي: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة مَنْ فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام.
وصايا النبي صلى الله عليه وسلم عامة، ووصاياه في أيامه الأخيرة قبل وفاته خاصة، تبين مدى حرصه على أمته، وشفقته ورحمته بها. ولا شك أن من أعظم ما تقرب به المتقربون لله عز وجل، هو طاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه والعمل بوصاياه، قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، قال ابن كثير: أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر. وقال السعدي: وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على حُكم الشيء كَنصِّ الله تعالى، لا رخصة لأحدٍ ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحَد على قوله صلى الله عليه وسلم.
Source link