حكم تحية المسجد قبل أذان صلاة المغرب – خالد عبد المنعم الرفاعي

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقد أجمع أهل العلم على أن وقت غروب الشمس من أوقات النهى عن الصلاة؛ واستدلوا بأدلة كثيرة منها ما رواه أحمد، ومسلم عن عمرو بن عبسة قال: قلتُ: يا نَبِيَّ الَّله أخبرني عن الصلاة، فقال: ((صلّ صلاةَ الصبح، ثُمَّ أقْصِر عن الصلاة حتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ وترتفع، فإنَّها تطْلُع بَيْنَ قَرْنَيْ شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفَّار، ثم صلّ فإنَّ الصلاة مشهودة محضورة حتَّى يستقِلَّ الظلُّ بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تُسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار)).

وفي الصحيحين عن أَبِي سعيدٍ أنَّ النَّبيَّ – صلَّى اللَّه عليه وسلَّم – قال: ((لا صلاةَ بعدَ صلاةِ العَصْرِ حتَّى تغرُبَ الشَّمسُ، ولا صلاةَ بعد صلاةِ الفجر حتَّى تطلُعَ الشمس)).

واستَدَلَّ أهل العلم بالأحاديث السابقة وغيرها على المَنْعِ من التَّطَوّع المُطْلق – أي: ما لا سبب له – في تلك الأوقات، واختلفوا في صلاةِ ذوات الأسباب، كركعتي الطواف، وكصلاة الكسوف، وكتحيَّة المسجد، والصلاة على الجنازة، والركعتين عقِبَ التَّطَهُّر، وركعتي التوبة، والاستخارة، وغيرها، والراجح من قَوْلَيِ أهل العلم هو مشروعة تحية المسجد وغيرها من ذوات الأسباب في أوقات النَّهْيِ؛ وهو مذهب الشافعيّ، ورواية عنْ أَحْمَدَ اختارها أبو الخطَّاب وبعضُ الحنابلة، ونصرها شيخُ الإسلام ابن تيمية.

واحتجّوا بأدلة خاصة، وبقواعد أصولية، وبكليات ومقاصد الشريعة، فمن القواعد الأصولية أنَّ عموم مشروعية الصلوات ذوات الأسباب عموم محفوظٌ، ولم تُخَصَّ منه صورةٌ، بِخلاف عموم النَّهي فإنَّهم أجمعوا على تَخصيص بعضِ أَفْرَادِه فأصبح ظَنِّيَّ الدلالة؛ كما هو مقرر عند علماء الأصول؛ والعامّ المحفوظ مقدَّم على العامّ المخصوص.

ومن الكليات أن النهي عن الصلاة في تلك الأوقات محرم تحريم وسائل وليس تحريم مقاصد، أي حرم سدًّا للذريعة، وما حرم لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة.

أما الأدلة من السنة المطهرة على رجحان قول الشافعي فسيأتي طرفًا منها في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية مُرجّحًا لِمذهب الشافِعِيّ كما في “مجموع الفتاوى” (23/178-205): “قد ثَبَتَ بِالنَّصّ والإجماع أنَّ النَّهي ليس عامًّا لِجميع الصلوات؛ فإنه قد ثَبَتَ في الصَّحيحَيْنِ عنِ النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: ((من أدرك ركعة قبل أن تطلُع الشمس فقد أدرك)) وفي لفظ: ((فلْيُصَلّ إليها أخرى)) وفي لفظ: ((فيتم صلاته)) وفي لفظ: ((سجدةً)) وكلها صحيحة وكذلك قال: ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أَدْرَكَ))، وفي هذا أمرُه بِالركعة الثَّانية من الفجر عند طلوع الشمس، وفيه أنَّه إذا صلَّى ركعةً من العصر عند غروب الشمس صحَّت تلك الركعة، وهو مأمور بأن يَصِلَ إليها أخرى؛ فقد دلَّ الحديثُ واتّفاقُهم على أنَّه لم ينهَ عن كل صلاة.

وروى جُبَيْرُ بْنُ مطعم أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يا بَنِي عبد مناف لا تَمنعوا أحدًا طاف بِهذا البيتِ وصلَّى أيَّةَ ساعةٍ شاء من ليل أو نهار))؛ رواه أهل السنن، وقال الترمذي: حديثٌ صحيح، واحتجَّ به الأئمةُ: الشَّافعِيُّ وأحمدُ وأبو ثور وغيرُهم، وأخذوا به وجوَّزُوا الطوافَ والصلاةَ بعد الفجر والعصر، كما رُوِيَ عنِ ابن عمر وابنِ الزُّبَير وغيرِهما من الصحابة والتابعين.

قال: والحُجَّة مع أولئك -أي: من قال بجواز ركعتي الطواف في أوقات النهي – من وجوه:

 أحدها: أنَّ قوله: ((لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت))، الحديثَ، عمومٌ مقصود في الوقت فكيف يجوز أن يقال: إنَّه لم يدخل في ذلك المواقيت الخمسة.

الثَّاني: أنَّ هذا العموم لم يخص منه صورة لا بنصّ ولا إجماعٍ، وحديث النهي مخصوصٌ بِالنَّصّ والإجماع، والعمومُ المحفوظ راجِحٌ على العموم المخصوص.

الثَّالث: أنَّ البيت ما زال الناس يطوفون به ويصلّون عنده من حين بناه إبراهيم الخليل، وكان النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه قبل الهجرة يطوفون به ويصلّون عنده، وكذلك لما فُتِحَت مكةُ كثُرَ طواف المسلمين به وصلاتُهم عنده، ولو كانَتْ ركعتا الطواف منهيًّا عنْهَا في الأوقات الخمسة لكان النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – ينهى عن ذلك نهيًا عامًّا؛ لحاجةِ المسلمين إلى ذلك، ولكان ذلك ينقل.

الرابع : أنَّ في النهي تعطيلاً لمصالح ذلك من الطواف والصلاة.

الخامس: أنَّ النهيَ إنَّما كان لسد الذريعة، وما كان لسد الذريعة فإنه يُفْعَل للمصلحة الراجحة؛ وذلك أنَّ الصلاة في نفسها من أفضل الأعمال وأعظم العبادات؛ كما قال النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم -: ((واعلموا أنَّ خيرَ أعمالِكُم الصلاة)) فليس فيها نفسها مفسدة تقتضي النهي، ولكن وقت الطلوع والغروب الشيطانُ يُقارن الشمسَ وحينئذ يسجد لها الكفار.

وما نُهِي عنه لسدّ الذريعة يباح للمصلحة الراجحة؛ كما يباح النظر إلى المخطوبة، والسَّفر بها إذا خيف ضياعُها، كسفرها من دار الحرب.

الوجه السادس: أن يقال: ذوات الأسباب إنَّما دعا إليها داع، ولم تفعل لأجل الوقت، بخلاف التطوُّع المطلق الذي لا سبب له، وحينئذ فمفسدة النهي إنَّما تنشأ مما لا سبب له دون ما له السبب؛ ولهذا قال في حديثِ ابْنِ عُمر: ((لا تتحرَّوْا بِصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها)).

  قال – رحمه الله – مرجحا صلاةَ تَحِيَّة المسجد في أوقات الكراهة لوجوه:

منها: أنَّ تحيَّة المسجد قد ثبت الأمرُ بِها في الصحيحين عن أبي قتادةَ أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس))، وهو عامّ في كل وقتٍ عمومًا محفوظًا، لَم يخص منه صورة بنصّ ولا إجماع، وحديثُ النَّهيِ قد عُرِفَ أنَّه ليس بعامّ، والعام المحفوظ مقدَّم على العامّ المخصوص فإنَّ هذا قد علم أنه ليس بعامّ بخلاف ذلك، فإن المقتضي لعمومِه قائِمٌ لم يُعْلَمْ أنَّه خرج منه شيء.

الوَجْهُ الثَّاني: ما أخْرَجَا في الصحيحيْنِ عن جابرٍ قال: جاء رجل والنبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب النَّاس فقال: ((صلَّيتَ يا فلان؟)) قال: لا قال: ((قم فاركع)) وفي رواية: ((فصل ركعتين))، ولمسلم قال: ثم قال: ((إذا جاء أحدُكم يوم الجمعة والإمامُ يخطب فليركعْ ركعَتَيْنِ وليتجوَّزْ فيهما))، وأحمدُ أخذ بهذا الحديث بلا خلافٍ عنه هو وسائرُ فقهاءِ الحديث؛ كالشافعيّ وإسحاقَ وأبي ثور وابْنِ المُنْذِر، وَهُوَ وَقْتُ نَهْيٍ عنِ الصلاة وغيرِها مِمَّا يشغل عن الاستماع، فأوقات النهي الباقية أولى بالجواز. يبيّن ذلك أنَّه في هذه الحال لا يُصَلَّى على جنازة ولا يطافُ بِالبيت، ولا يصلى ركعتا الطواف والإمام يخطب؛ فدلَّ على أنَّ النَّهيَ هنا أوكد وأضيقُ منه بعد الفجر والعصر.

الوجه الثالث: أن يقال: قد ثبت استثناءُ بعض الصلوات من النهي: كالعصر الحاضرة، وركعتي الفجر والفائتة، ورَكْعَتَيِ الطواف، والمعادة في المسجد، فقد ثبت انقسام الصلاة أوقاتَ النَّهيِ إلى منهيّ عنه ومشروعٍ غَيْرِ منهيٍّ عنه، فلا بد من فرقٍ بينهما:

 إذا كان الشارع لا يفرّق بين المتماثلين فيجعَلُ هذا مأمورًا وهذا محظورًا، والفرق بينهما إمَّا أن يكون المأذون فيه له سبب، فالمصلي صلاةَ السبب صلاَّها لأجل السبب، لم يتطوَّع تطوّعًا مطلقًا.

 ولو لم يصلّها لفاتَهُ مصلحة الصلاة؛ كما يفوتُه إذا دخل المسجد ما في صلاة التحية من الأجر.

وإمَّا أن يكون الفرق شيئًا آخَرَ، فإن كان الأول: حصل المقصودُ من الفرقِ بين ذوات الأسباب وغيرِها، وإن كان الثَّاني قيل لهم: فأنتم لا تعلمون الفرقَ، بل قد علمتم أنَّه نَهى عن بعض ورخَّص في بعض، ولا تعلمون الفَرْقَ، فلا يجوزُ لكم أن تتكلموا في سائر موارِد النّزاع لا بِنَهْي ولا بإذن؛ لأنه يجوز أن يكون الفرقُ الذي فرق به الشارع في صورة النَّصّ فأباح بعضًا وحرَّم بعضا متناولاً لموارد النزاع.

الوجه الرابع: أنه قد “ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّهُ قَضَى ركْعَتَيِ الظهر بعد العصر”، وهُوَ قضاء النافلة في وقت النَّهْيِ مع إمكان قضائِها في غير ذلك الوقت؛ فالنوافل التي إذا لم تفعل في أوقات النهي تفوتُ، هي أولى بالجواز من قضاء نافلةٍ في هذا”. اهـ. مختصرًا، وبتصرف يسير.

إذا تقرر هذا فيجوز صلاة ركعتي تحية المسجد في جميع أوقات الكراهة، ومنها الدقائق القليلة قبل أذان المغرب،، والله أعلم.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

حكم المسح على الخفين الخفيفتين إذا لبس على غير وضوء – خالد عبد المنعم الرفاعي

منذ حوالي ساعة السؤال: ما حكم لبس الخفين الخفيفتين دون الوضوء والمسح عليهم الإجابة: الحمد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *