منذ حوالي ساعة
الصداقة من أحلى المناهل وأعذبها، وأهنأ الموارد وأطيبها، التي يستمتع بها الإنسان في مجالات الحياة المختلفة؛ فالصداقة كما قال الراغب الأصفهاني: “صدق الاعتقاد في المودة”؛ فإن الصداقة كلها مبنية على الصدق، كما هي مقتبسة منه.
الصداقة من أحلى المناهل وأعذبها، وأهنأ الموارد وأطيبها، التي يستمتع بها الإنسان في مجالات الحياة المختلفة؛ فالصداقة كما قال الراغب الأصفهاني: “صدق الاعتقاد في المودة”؛ فإن الصداقة كلها مبنية على الصدق، كما هي مقتبسة منه.
وثمة كلمات لها صلة بالصداقة؛ وهي الخُلَّة والحب، والحب فطرة وليس بخطيئة؛ لأن القلوب بيد الله، فقد وضعه في النفوس بنسب متباينة، فبالمحبة تحقق النفوس مطالبها، وتأخذ الحياة جمالها وكمالها، وبالحب الصادق لله والرسول يذوق العبد حلاوة الإيمان؛ فلذلك لم يَنْهَ الإسلام عن اختيار الصديق، واتخاذه على الإطلاق، بل ضَبَطَ المؤمن بضوابطَ تجاه اختيار الصديق؛ كما تدل عليه الآية الكريمة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، فالصديق مرآة لصديقه، ومقياس لمعرفة خِلالِهِ؛ كما نطق به الرسول الكريم: «المرء على دين خَلِيلِه، فلْيَنْظر أحدكم من يخالل»؛ (رواه البخاري ومسلم).
ولله دَرُّ القائل:
عنِ المرء لا تسأل وسَلْ عن قرينه *** فكلُّ قرين بالمقارن يقتدي
الصداقة في الإسلام ترتبط بالدين والعقيدة، وهي نعمة ربانية، ولها هدف أسمى، وغاية عظمى، وذلك الالتزام بقيم الصفاء، والوفاء، والنصح، والإخلاص، وطول الصحبة مع الفرح والتَّرَح؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، بذلك يجلب النفع في معاشه ومعاده، كما أشار إلى ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ بقوله: “عليكم بالإخوان؛ فإنهم عُدَّةٌ في الدنيا والآخرة، ألَا تسمعون إلى قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101]”.
فإذا لم يوجد ذلك الهدف، وفُقِدَت تلك الغاية بأن قامت علاقة بين إنسان وإنسان لمصالح الدنيا الدَّنِيَّة من إشباع أطماع النفس وشهواتها، وعلى التحاضِّ على المفاسد والآثام بدون التزام بقِيمة، أو احتكام إلى دين، أو اعتراف بخُلُق، فتلك الصداقة لا يوافق عليها الإسلام، بل قد تكون هذه الصداقة مؤدِّية بصاحبها إلى الضلال، وعاقبتها حسرة وندامة وقتَ لا تنفع الندامة، وإن كان غناؤها ظاهرًا في الدنيا؛ كما في قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 28، 29].
فمصادر الشرع المتين توجِّهنا بتوجيهات بالغة، وإرشادات قيِّمة عن الصداقة واختيارها، وشبهت صداقة السوء بالكِير، وصداقة الخير بالْمِسْكِ؛ كما في الحديث النبوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك، ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحذيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يُحرِق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة»؛ [أخرجه البخاري].
وهذا الحديث يدل على مكانة الجليس الصالح، وأيضًا أن المرء مع من أحب؛ كما في الحديث: «المرء مع من أحب»؛ (متفق عليه)، وهكذا وجَّهنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى منهج الصداقة؛ حيث قال قولًا حازمًا: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقيٌّ»؛ (رواه الترمذي)؛ لأن مظهر المؤمن يدل دائمًا على مَخْبَرِهِ، لا يماري، ولا ينافق، ولا يواري، ولا يلقاك بوجه، ويكون وراءك بوجه آخر.
دَعِ الكذوب فلا يكن لك صاحبًــا *** إن الكذوب يَشين حرًّا يصحَبُ
يلقاك يحلف أنه بك واثـــــــــــق *** وإذا توارى عنك فهو العقــــربُ
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً *** ويروغ منك كما يروغ الثعلـــبُ
لا خير في ودِّ امرئ متملِّــــــــقٍ *** حلوِ اللسان وقلبه يتلهَّــــــــــبُ
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلُّفـــــــــــــا *** فَدَعْهُ ولا تُكْثِرْ عليه التأسُّفــــــــــا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة *** وفي القلب صبرٌ للحبيب ولو جفا
والجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أتباعه عن الإفراط في المحبة والصداقة؛ فإن الإفراط سائق إلى التقصير، ولأن الحال تكون بينهما نامية أولَى من أن تكون متناهية؛ قائلًا: ((أحْبِبْ حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبْغِض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما))؛ (رواه الترمذي)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا يكن حبُّك كلفًا، ولا بغضك تلفًا”؛ (رواه البخاري في الأدب المفرد).
وهكذا ديننا الإسلام دين الوسطية والاعتدال، وعلمنا اتخاذ الوسطية في كل شيء، حتى في زيارة الصديق؛ لأن التوسط زيادة للحب، والتقليل مدعاة للهجران، والكثرة سبب للمَلال والكَلال؛ حيث قال النبي لأبي هريرة رضي الله عنه: «يا أبا هريرة، زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا»؛ (رواه البيهقي في شعب الإيمان).
وحرِيٌّ بالصديق أن يكون كريمًا وفيًّا، لا لئيمًا غادرًا حتى تدوم صداقته، وتستمر مودته، إن كان الإنسان في حالة الرخاء أو في البلاء، والصديق الحقيقي هو صديق وقت الشدة، لا كما يُشاهَد في كثير من الناس، إذا اجتمع الغِنى والجاه للمرء، اجتمعت الإخوان والخِلَّان عنده، فإذا زال عنه الجاه، وتخلى عنه الغِنى، تفرقوا عنه، وخلَّوا سبيله، كأن شيئًا لم يكن.
وما أجمل قول القائل:
المرء في زمن الإقبال كالشجـــرة *** والناس من حولها ما دامت الثمرة
حتى إذا رأى عنها حملها انصرفوا *** وخلَّفوها تقاسي الحر والغبـــــــرة
ومن ناحية أخرى ألَّا يتبدل الإنسان، ولا يتحول، ولا يتنكر لصديقه إذا فُتحت الدنيا أبوابه عليه، وألَّا يمُنَّ على صديقه بما أسبغ عليه من نعمة أو خير، فكذلك يقبل العتاب من صديقه عندما اقترف ما يقتضي العتاب، هذا من شيم الأصدقاء الأخيار؛ كما قال القائل: “الصديق يعاتب ولا يعاقب”، وبهذا تبقى المودة بين الأحباب؛ كما في قول الشاعر:
إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ *** ويبقى الود ما بقِيَ العتابُ
وألَّا يكون أنانيًّا ذاتيًّا، بل ينبغي أن يتحلى بصفات المؤمنين الصالحين، ويتأسى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؛ (رواه البخاري)، ومن حق الأصدقاء أيضًا أن تُغفَرَ زلَّتُهم، وتُستر هفوتهم، وألَّا تُفشى أسرارهم لأي كان.
وقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله “أنه يشترط فيمن صحبته أن يكون عاقلًا، حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا، أما العقل فهو الأصل، هو رأس المال الرابح دائمًا، ولا خير في صحبة الأحمق، وإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت”.
قال سيدنا علي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخا الجهل *** وإياك وإيـــــــاهُ
فكم من جاهـــل أردى *** حليمًا حينا آخاهُ
يُقاس المرء بالمــــــرء *** إذا المرء ماشــاهُ
وللشيء من الشــــيء *** مقاييس وأشبـاهُ
وللقلب على القلـــــب *** دليل حين يلقــاهُ
لذلك لا بد أن يكون الصديق ملتزمًا بالدين، والعقيدة الصحيحة، والخُلُق القويم، ومبتغيًا لمرضاة الله؛ إذ إن الإنسان المجرد من تلك الصفات فهو غير مأمون، ولا موثق بصداقته، بل قد تكون وبالًا عليه يوم القيامة.
قال علي الطنطاوي: “الأصحاب خمسة؛ فصاحب كالهواء لا يُستغنى عنه، وصديق كالغذاء لا عيش إلا به، ولكن ربما ساء طعمه أو صعب هضمه، وصاحب كالدواء مرٌّ كريه، ولكن لا بد منه أحيانًا، فصاحب كالصهباء – من أسماء الخمر – تلِذُّ شاربها، ولكنها تؤذي بصحته وشرفه، وصاحب كالبلاء.
أما الذي هو كالهواء؛ فهو الذي يفيدك في دينك، وينفعك في دنياك، وتلذذك عشرته، وتمتعك صحبته، وأما الذي هو كالغذاء؛ فهو الذي يفيدك في الدنيا والدين، لكنه يزعجك أحيانًا بغلظته، وثقل دمه، وجفاء طبعه، وأما الذي هو كالدواء؛ فهو الذي تضطرك الحاجة إليه، وينالك النفع منه، ولا يرضيك دينه، ولا تسليك عشرته، وأما الذي هو كالصهباء؛ فهو الذي يبلِّغك لذتك، ويُنيلك رغبتك، ولكن يفسد خُلُقك، ويهلك آخرتك، وأما الذي هو كالبلاء؛ فهو الذي لا ينفعك في دنيا ولا دين، ولا يمتعك بعشرة ولا حديث، ولكن لا بد لك من صحبته.
وعليك أن تجعل الدين مقياسًا، ورضا الله ميزانًا، فمن كان يفيدك في دينك، فاستمسك به، إلا أن يكون ممن لا تقدر على عشرته”؛ [صور وخواطر].
ملخص القول: إن الصداقة في حد ذاتها لم تكن سيئة، بل المدار على استخدامها، وتوجيهها، إن كانت في الله فبشارة وسلام من عند الله في الدنيا والآخرة، وإلا فحسرة وندامة، فينبغي علينا أن نلتزم تعاليم الإسلام ومناهجه في كل شيء، مبتغين لمرضاة الله.
اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
______________________________________________________________
الكاتب: عدنان أحمد العجائب
Source link