أيها المربون الفضلاء، يجب العناية بأمر العقيدة أيما عناية، يجب العناية بالعقيدة منذ نعومة أظفار أطفالنا، فالطفل مولود على الفطرة، فحين يسمع تعظيم الله وتسبيحه وتحميده تسكن نفسه؛ لأن نفسه مفطورة على الخير…
إن مما اتفقت عليه كلمة العقلاء أن محبة الوالد لولده جِبِلَّة وفطرة، وقديمًا قالوا: الولد مَجْبَنةٌ مَبْخَلةٌ؛ وذا من فرط حبه، فما من خير إلا وتمنيت لولدك أن يصل له، ولا رفعة في الدنيا والآخرة إلا وتمنيت أن لولدك منها أوفر الحظ والنصيب.
وقد مضى في فيما سبق الطريق للوصول للقلوب، فيا من رجوت لولدك التوفيق اسْعَ بما تستطيع أن تصل إلى قلبه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه ربه في القرآن فيقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
فابتعد عن الشدة والغلظة، وكن رفيقًا هيِّنًا ليِّنًا، وليكن استعمال الشدة كالدواء، عامل بالصفح والعفو وتغافل؛ فتسعة أعشار العقل في التغافل، وأظهر الحب والحفاوة والاحترام، وشاور في الأمر تكسب قلبًا وذكرًا حسنًا، وتنل من الخير ما ترجو وفوق ما ترجو.
عباد الله، إن من أعظم ما عنينا بتعليمه لأولادنا العقيدة السليمة الصحيحة نورثها لهم جيلًا بعد جيل، فتعليم العقيدة لا يكون فقط بالمساجد والمدارس فحسب؛ بل لا بُدَّ أن يكون ذلك في المجالس والطُّرُقات، فالعقيدة الصحيحة حاجتنا إليها فوق كل حاجة، وضرورتنا إليها فوق كل ضرورة؛ إذ لا سعادة للقلوب ولا نعيم ولا سرور إلا بأن تعبد الله رَبَّها وفاطرها؛ ولذا أرسل الله الرُّسُل وأيَّدَهم بالمعجزات {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
أيها المربون الفضلاء، يجب العناية بأمر العقيدة أيما عناية، يجب العناية بالعقيدة منذ نعومة أظفار أطفالنا، فالطفل مولود على الفطرة، فحين يسمع تعظيم الله وتسبيحه وتحميده تسكن نفسه؛ لأن نفسه مفطورة على الخير؛ ولذا شرع الله الأذان في أُذُن المولود.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: وسِرُّ التأذين -والله أعلم- أن يكون أول ما يقرَع سمع الإنسان كلمات النداء العلويِّ المُتضمِّنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يَدخُل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقينِ له شعارَ الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يُلقَّن العبد كلمة التوحيد عند خروجه منها.
وينبغي عليك أيها الأب المبارك والمربي الفاضل أن تسمع ولدك بين الفينة والأخرى وفي كل حين ذكر الله وتسبيحه وتحميده قد ينشأ على ذكر الله وحبه وتسبيحه وتحميده.
أيها الأفاضل، إن غرس العقيدة في نفوس الناشئة هي سنة المرسلين والصالحين المصلحين، فنوح مع ابنه يقول له: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42] وخليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوصي بالعقيدة بنيه {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
وتعاهد العقيدة في الحياة كلها، أرأيتم مشهد وفاة يعقوب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].
وهذا لقمان يقول لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وهذا سيِّد الأولين والآخرين وخير معلم للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم يوصي ابن عباس وهو رديفه وهو غلام صغير يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَل اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ.
فيا عجبًا لأقوام تركوا تعليم العقيدة لأولادهم بحجة أنهم ما زالوا صغارًا! فيا سبحان الله متى يكون الغرس إذًا؟!
هذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يُعلِّم ابن عباس هذه الكلمات محتفيًا به ومردفه خلف ظهره، أين نحن اليوم من مصاحبة أولادنا والجلوس معهم وسماع كلامهم، فله أثر في التربية عظيم، وإشعارهم وإسماعهم المحبة؛ إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: «اللَّهُم أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وحُسنِ عِبَادتِك».
وها هو عليه الصلاة والسلام يُعلِّم الحسن رضي الله عنه سبطه دعاء القنوت وهو قطعًا لم يجاوز الثماني سنوات اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا شَرَّ ما قضيت وهو لا يزال أقل من الثامنة.
ويُعلِّم الحسن والحسين التعلُّق بالله تبارك وتعالى، فكان يعوذهم وهم صغار متأسيًا بسنة أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في رسائل عظيمة يتنفَّسُها الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما مع الهواء، ويشربونها مع الماء أن مدبر الكون وحافظهم هو ربهم تبارك وتعالى، وإن كان جدهم رسول الله؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك تدبير الكون ولا حفظهم، فعلقهم بمن بيده كل شيء، يعوذهم ويقول عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود الحسن والحسين ويقول: «إن أباكم كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامَّة».
بل إن تعجب فاعجب لخبر الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، ألم يتآمر عليه إخوته وهو صغير، فبالله عليكم متى تَعَلَّم يوسف التعلُّق بالله تبارك وتعالى والملجأ إليه؟! متى عَلَّمه يعقوب؟! فحين وضع في الجُبِّ {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15].
وحين همَّت به امرأة العزيز {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23]، وحين ابتُلي بامرأة العزيز اختار السجن؛ لأنه أقرب لمرضاة الله تبارك وتعالى، وحين دعا أهل السجن لعبادة الله تبارك وتعالى وحاجَّهم وقال لهم: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
متى تعلم هذه العقيدة؟! ومتى تعلم التعلق بالله تبارك وتعالى؟! فصلى الله وسلم على أبيه يعقوب حين تعاهد ولده، حين تعاهد التوحيد في قلب ابنه فانتفع الابن بالتوحيد في سائر شئون حياته، وحين فارقه والده، وحين صار عزيز مصر، فهكذا يكون الغرس مفيدًا.
فإلى كل أب وأم، إنكم لا تدرون متى تفارقون أولادكم، فماذا غرستم فيهم؟ كي يحبوا الإسلام ويعظموا شريعة الرحمن، كي يسلموا في حياتهم فيرضوا ربهم في دنياهم فيرضيهم ربهم جل جلاله في الدنيا، ويسعدهم برؤيته في الجنان.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا.
عباد الله، إن من أعظم ما يتم غرسه في قلوبنا جميعًا أولًا ثم في قلوب أولادنا حب الله جل جلاله، فلا يؤمن أحدكم حتى يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، حب الله جل وعلا سبحانه وبحمده يكون بالتفكُّر في آلائه وعظيم صنعه، وتذكير النفس والولد دومًا بما أسدى الله من نعمه، وألا نفتر عن ذلك طرفة عين، ألم يقل نبينا عليه الصلاة والسلام «إن الله ليرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها» أكلة واحدة، إنه الاستحضار لنعم الله جل وعلا ومننه إن الله ليرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها.
كما يجب غرس شكر النعم في قلوبهم وتذكيرهم على الدوام بأن الرزق من الله جل وعلا، وأن الله يحب عباده فيكرمهم فينشأ الطفل ويتعوَّد الكبير على شكر الله جل وعلا بلسانه وقلبه وجوارحه.
ومن أوجب ما يجب غرس التعلق بالله تبارك وتعالى في قلوبنا أولًا وحسن الظن به جل جلاله وغرس ذلك في قلوبنا وقلوب أولادنا، وألا يكون أحد أعظم من الله في نفوسنا، فالكل عباد لله يأتمرون بأمره الكوني والشرعي لمن وفق الله جل وعلا.
انتبه يا رعاك الله، لا تعلق ولدك بك وإنما عَلِّقه بربِّه، فلربما فارقت أو عجزت عن تحقيق مراده، والله حي لا يموت ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف تُعلِّقه بالضعيف وتترك تعليقه بالقوي القادر جل جلاله؟!
وتأمَّل في يوسف لمَّا فارق أباه كان في غاية التسليم لأمر الله، عالمًا لعظمة الله، فدعا ربه والتجأ إليه فأعَزَّه ومَكَّنه وأعانه ولم يُضيِّعه، فالله لا يُضيِّع أولياءه، بل إن تعجب فاعجب من خطاب نبيِّك الرحيم ببنيه حين يخاطب فاطمة ويقول: «يا فاطمة، سليني ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئًا».
إنه تعليق القلوب بالله، كما يجب أن يغرس في قلوبنا جميعًا التسليم لأمر الله جل وعلا، وما أعظم هذا الدعاء الذي يشرع قوله عند النوم! فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان نبينا عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه نام على شِقِّه الأيمن ثم قال: «اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إليْكَ، وَوجَّهْتُ وَجْهي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ، وَأَلجَأْتُ ظهْري إلَيْكَ، رَغْبةً وَرهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجأ ولا مَنْجى مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، آمَنْتُ بِكتَابِكَ الذي أَنْزلتَ، وَنَبيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ».
كما يجب غرس حب رسول الله في قلوبنا، فنُعمِّق الانتماء للإسلام، والنفس في مرحلة البناء تحاول التشبُّه بأقوى وأعظم شخصية حولها، فأسْمِع ولدك سيرةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأسْمِعْه مواقفه عليه الصلاة والسلام، وأخبره أن نبيَّك عليه الصلاة والسلام يحبك ويحبه، وأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عن أمته، وأن النبي عليه الصلاة والسلام يشفع لهم حتى يقول له ربُّه جل وعلا: «إنا لا نَسُوءكَ في أمتك».
أخبره بتضحيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبره ولا تملَّ من الكلام عن رسول الله حتى ينشأ حب رسول الله حقيقة في قلبه.
نعمق حب النبي في نفوس الناشئة إذا أسرعنا الاستجابة لأمر الله ورسوله، فلا نقدم على أمر الله ورسوله شيئًا، ويجب أن نعمق حب صحابة رسول الله في نفوس أولادنا، وعظماء الإسلام كي ينشئوا على حبهم والاعتزاز بدينهم.
أيها الآباء، إن أعظم وسائل التربيةِ التربيةُ بالقدوة، فكونوا أنتم كما تريدون أبناءكم أن يكونوا.
وأخيرًا: عَظِّموا حُبَّ القرآن في نفوس أولادكم، وابعثوهم لتدريس القرآن وحفظه، وقديمًا قالوا: عَلِّمْ ولدك القرآنَ والقرآنُ يُعلِّمُه كل شيء.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
أيها الابن الصالح، اعلم أن أعظم هدية تقدمها لوالديك صلاحك في نفسك، فصلاحك هو استمرار العمل الصالح لوالديك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث» قال «أو ولد صالح يدعو له».
ادعوا لأولادكم وإياكم والدعاء عليهم، فكم من دعوة والد لولده أعقبت توفيقًا ونجاحًا وفلاحًا، واصبروا وصابروا وعِندَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى.
اللهم اجعلنا مُعظِّمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا معظمين لما نهيت عنه منتهين عنه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
___________________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
Source link