إنَّ عمل الشيطان يكون في عقل الإنسان فقط، فيجعل كل تفكيره منحصرًا في جزء ضيق جدًّا لا يرى غيره (تفكير جزئي) بالوسوسة في العقل، وتزيينه للإنسان بأن هذا الوضع الجديد هو أفضل ما يكون بالنسبة له كذبًا وبهتانًا…
لقد آلمني وبشدَّة كأستاذ تربوي ما أشاهِدُه من قيادة الشيطان للكثير من الناس وبسلاسة فائقة، حتى وإن كان هذا الإنسان حاصلًا على أعلى الدرجات العلمية، والجوائز العالمية، وهذا ليس بمستبعدٍ على الشيطان؛ قال الله تعالى في القرآن الكريم: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]؛ أي: يسوقهم كالدوابِّ بلجامه.
وقوله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17].
إن حال الناس الآن في أقوالهم وسلوكهم يدل على ذلك بوضوح، فلا منطق عقلي لديهم لهذا كله.
ولكن ما آلية الشيطان في فعل ذلك، وقدرته هذه؟ ألا تستحق هذه الظاهرة الدراسة والبحث؟!
لقد استوقفني هذا المقطع {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من الآية {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36].
تأمَّل معي أيها المسلم ذلك التعبير، إن هناك وضعًا كان فيه آدم ثم أدخله الشيطان في وضع آخر، الوضع الأول ممتد لا نستطيع تحديد حدود له؛ لا مكانية ولا زمانية، ولا لنا قدرة على وصف ما فيه من نعيم، والحرية المطلقة لآدم للتنعُّم والعيش فيه.
تأمل قول الله: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} [الأعراف: 19]، إنه وضع غير محدود في كل شيء، ثُمَّ ذهب به الشيطان إلى وضع آخر؛ الشجرة، دقِّق شجرة واحدة من بين شجر لا محدود العدد ولا الكيف ولا المتعة، هذه الشجرة قد حذَّر الله آدم من الأكل منها، فهي مُضِرَّة له، وليست طعامًا له بدليل أنه مجرد أن ذاقها لم يتحمَّل {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121].
وهنا نتوقف ونُدقِّق، أليست هذه الآلية هي نفسها التي يتبعها الشيطان الآن مع بني آدم، إن كنت لا تُدْرِك ذلك فقد نبَّهنا الله لذلك فقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
إنَّ عمل الشيطان يكون في عقل الإنسان فقط، فيجعل كل تفكيره منحصرًا في جزء ضيق جدًّا لا يرى غيره (تفكير جزئي) بالوسوسة في العقل، وتزيينه للإنسان بأن هذا الوضع الجديد هو أفضل ما يكون بالنسبة له كذبًا وبهتانًا، فيجره إليه جرًّا دون وعي من الإنسان ولا تفكير.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، ولكي أقرب لك المعنى بالمحسوس أيها المسلم، فعليك أن تتصوَّر لعلبة الجولف حيث يتم دحرجة الكرة حتى تقع في الحفرة الضيقة بأرض الملعب، التي يصعب خروج الكرة منها.
هكذا يعمل الشيطان حيث يحاصر الإنسان من كل جهة، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17] وبذلك يضيق الخناق على الإنسان حتى لا يجد مخرجًا له، فتضيق نفسه عليه، والأرض بما رحبت مما {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
وهذه عملية عقلية محضة تتبلور بالتفكير الجزئي الضيق الذي يسيطر على العقل، وتجعله لا يُفكِّر إلا في هذا النطاق، ثم تتحوَّل إلى عملية نفسية، يضيق بها صدر الإنسان، وقد تتحوَّل إلى مرضٍ نفسيٍّ.
وهذا حال كل المرضى النفسيِّين، الذين ارتكبوا الجرائم والمعاصي والذين يعانون من عدم فهم طبيعة عمل الشيطان لهم، فعندما تناقشه يلفُّ ويدور حول نقطة ارتكاز الشيطان له، ولا يريد الخروج عنها أبدًا، فكل تفكيره في هذه الجزئية المحدودة، ويرى الدنيا كلها في هذه الجزئية، ومع الأسف يُعذِّب نفسه بذلك، ويترك كل ما يستطيع عمله ويُكلِّفه الله به وراء ظهره، فيخسر الدنيا والآخرة.
ولكن ما آلية الخروج من ذلك؟
إن آلية الخروج من التفكير الجزئي المحصور والضيق الذي حشرنا الشيطان فيه، تتمثل في التفكير الكلي المنطلق المفتوح على حقيقة الوجود كله، وواجد الوجود، ومهمة وجودك كإنسان في هذا الوجود، وأن الله أوجدك لمهمة قيادة هذا الوجود (جماد، نبات، حيوان، نفسك، وغيرك) بمنهج الله، ولله، هذا تكليف من ربك لك، فأنت سيِّدُ هذا الوجود على الأرض بتكليف من الله، إذ قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فأنت الخليفة الذي يقود الحياة في الأرض بإرادة الله ولله.
فليتذكَّر الإنسان هذا الدور الكلي له في القيادة، ولا يترك لعدوِّه الشيطان هذه القيادة، يا لها من مكانة وعظمة وإكرام.
ومن هنا يبدأ بالاستعانة بالله على هذا الدور وإزاحة الشيطان من طريقه، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200، 201] فالاستعانة بالله هي أول الخطوات، مع الاستغفار والتوبة مما وقعت فيه من ذنب، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ثم الخروج خارج نطاق ما وقعت فيه تمامًا، وعدم التفكير فيه، والانشغال بعمل آخر يُرضي الله، وهذا كان واضحًا في وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان أول ما نصح به الرسول صلى الله عليه وسلم هو عدم الغضب، وأن تُغيِّر من وضعك، فإذا كنت واقفًا، فاجلس، وإن كنت بالمنزل أو بمكان مغلق فتوجَّه بالخروج وغيِّر مكان وجودك، توضَّأ أو اغتسل، فإن ذلك يساعدك على التخلُّص من المشاعر السيئة والسلبية وكل هذا يحتاج إلى تدريب وتعويد النفس على ذلك حتى ييأس الشيطان منك ولا يكون له عليك سلطان.
انطلق على الفور إلى مهمتك الكبرى التي كلَّفَك الله بها، وسِرْ على بركة الله ونور منه لمرضاة ربِّك بتحقيق منهجه في الأرض، ولا ينتابك اليأس ولا تلتفت إلى عدوِّ الله إبليس.
أيها المسلم، عليك بقراءة مقالات التفكير الكلي والتفكير الجزئي على شبكة الألوكة؛ لتزداد قناعتك بما قرأت.
_______________________________________________________
الكاتب:أ. د. فؤاد محمد موسى
Source link