منذ حوالي ساعة
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فمن المعلوم أن مناطَ التكفيرِ في الأقوال هو: أن ينطق بكلمة الكفر بغير؛ قال اللهُ تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] .
فدلة الآية الكريمة على أن لإكراه مانع من الحُكمِ بتكفيرِ المعَيَّن، وأنه أصلٌ في جوازِ إظهارِ كَلِمةِ الكُفرِ أعني في حالِ الإكراهِ.
الصارم المسلول على شاتم الرسول ط ابن حزم (3/ 95-96): “فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدًا لها، عالمًا بأنها كلمة= كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرًا و باطنًا؛ ولأنا لا نجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106].
ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط؛ لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره، ولم يرد من قال واعتقد؛ لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على العقد، والقول، وإنما يكره على القول فقط = فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر، فعليه غضب من الله، و له عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك= إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المكرهين، فإنه كافر أيضًا، فصار من تكلم بالكفر كافرًا إلا من أمره فقال بلسانه كلمة الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم: من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم، وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم، واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته، كاقتضاء إدراك الموافق للذة، و إدراك المخالف للألم، فإذا عدم المعلول كان مستلزمًا لعدم العلة، وإذا وجد الضد كان مستلزما لعدم الضد الآخر؛ فالكلام والفعل المتضمن للاستخلاف والاستهانة، مستلزم لعدم التصديق النافع، ولعدم الانقياد والاستسلام؛ فلذلك كان كفرًا”. اهـ
والحاصل أن المُكْرَهُ لا تَصِحّ رِدَّتُه، إلا إن اعتقد، وطابت به نفسُه، واطمأنَّ إليه؛ وقد نقل الإمام البَغَوي أجماع العُلَماء على ذلك.
وقال الشِّنقيطي: (إنَّ المُكْرَهَ لا يُؤاخَذُ بما أُكرِهَ عليه، بل يَغفِرُه اللهُ له؛ لعُذْرِه بالإكراهِ، كما يوضِّحُه قَولُه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، وطُمَأنينةُ القَلبِ بالإيمانِ، وبُغضُ وكراهيةُ الكُفرِ: شَرطٌ مُجمَعٌ عليه.
وقال ابنُ بطَّال: “أجمع العُلَماءُ على أنَّ من أُكرِهَ على الكُفرِ حتى خَشِيَ على نفسِه القَتْلَ، أنَّه لا إثمَ عليه، إن كَفَر وقَلْبُه مطمَئِنٌّ بالإيمانِ، ولا تَبِينُ منه زوجتُه، ولا يُحكَمُ عليه بحُكمِ الكُفرِ”.
وقال ابنُ العربي: “أمَّا الكُفرُ باللهِ، فذلك جائزٌ له – يقصد: المكرَهِ – بغير خِلافٍ، على شَرطِ أن يلفِظَ وقَلْبُه منشَرِحٌ بالإيمانِ، فإنْ ساعد قَلْبُه في الكُفرِ لِسانَه، كان آثمًا كافِرًا؛ لأنَّ الإكراهَ لا سُلطانَ له في الباطِنِ، وإنَّما سلطانُه على الظَّاهِرِ”. اهـ.
وذهب الإمام ابن حزم في كتابه “المحلى” (11/ 143) أن الخوف على المال والولد يبيح التقية في إظهار الكفر: قال رحمه الله: “كل ما كان ضرارًا في جسم أو مال، أو توعد به المرء في ابنه أو أبيه أو أهله أو أخيه المسلم= فهو كره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه”، ولما روينا من طريق البخاري عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه”. اهـ.
والراجح من قولي أهل العلم عدم مشروعية النطق بكلمة الكفر لإنقاذ مسلم؛ لأن من نطق بكلمة الكفر كفر، وقد استثنى الدليل من أكره في خاصة نفسه، وكان قلبه مطمئنًا بالإيمان، وأباح للمؤمنين ان يتقوا من الكافرين تقاة، مع نهيه لهم عن موالاتهم؛ كما قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وكذلك يشرع النطق بكلمة الكفر إن تعلق به مصلحة محققة للجماعة المسلمة.
ومن أظهر ما يدل على صحة مذهب الجمهور قصة قصةَ حاطبِ بنِ أبي بلتعة – رضي الله عنه -وقد رواها بتمامها الشيخان وغيرُهما، عن عليٍّ – رضي الله عنه – أنه بعث إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يُخْبِرُهُمْ ببعض أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا حاطبُ ، ما هذا؟!))، قال: يا رسولَ الله، لا تَعْجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قريش، ولم أكن من أَنْفُسِهِا، وكان مَنْ معكَ من المهاجرين لهم قَرَابَاتٌ بمكةَ، يَحْمُونَ بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أَتَّخِذَ عندهم يدًا، يَحْمُونَ بها قَرَابَتِي، وما فعلتُ كفرًا، ولا ارتدادًا، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لقد صَدَقَكُمْ))، قال عمر: يا رسولَ الله، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هذا المنافق، قال: ((إنه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لعلَّ اللهَ أن يكون قد اطَّلَعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتُم ، فقد غفرتُ لكم))، فأنزل اللهُ السورةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ} [الممتحنة: 1] إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
ولا شك أن فعل حاطب هو موالاة للكفار، ولم يشفع له أنه صانع أهل مكة من أجل حماية أهله من بطش الكفار، وإنما شفع له شهود عزة بدر.
قال غلإما أبو بكر الجصاص عند تفسير آية سورة الممتحنة: أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (5/ 325-327): “قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ مَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ لَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ، لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ كَمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ، وَيَسْتَبِيحُ إظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ إذَا صَدَرَ عَنْهُ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِكْفَارَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يوجب الإكفار لاستتابه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَتِبْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قَالَ، عُلِمَ أَنَّهُ ما كان مرتدًا، إِنَّمَا قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ.
فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ عُمَرَ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَقَالَ: “مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ”، فَجَعَلَ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ قَتْلِهِ كَوْنَهُ مِنْ أهل بدر.
قيل: لَهُ لَيْسَ كَمَا ظَنَنْتَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مُسْتَحِقًّا لِلنَّارِ إذَا كَفَرَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ وَإِنْ أَذْنَبُوا لَا يَمُوتُونَ إلَّا عَلَى التَّوْبَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ فِي إظْهَارِ الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مَعَ خَوْفِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: لَأَقْتُلَنَّ وَلَدَك، أَوْ لَتَكْفُرَنَّ، أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ إظْهَارُ الْكُفْرِ. وَمَا َيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْأَهْلِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ، أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْهِجْرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ لِأَجْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِهِمْ؛ فَقَالَ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]”. اهـ. مختصرًا، وبتصرف يسير.
هذا؛ والله أعلم.
Source link