على العالم الإسلامي أن يعتزَّ بهذا الفكر الإيماني، وأن يسعى إلى مُمارسته وتطبيقه، وأنْ يتخلَّص من عقدةِ الفكر الغربي، وأن ينهضَ دونَ خوف أو تردد؛ لأنَّه فكر رباني، مصدرُه الشريعة الإسلامية السمحة وتعاليمها وتوجيهاتُها
قبل مناقشة إدارة الذَّات كمدخل للإدارة الإسلامية، سنحاول هنا عرضَ الفكر الإداري في الإسلام، الذي يُعَدُّ جزءًا لا يتجزأ من الشُّرَف الإسلامية، والذي يحمل طابعَه الخاص الذي يُميزه عن التيارات الفكرية الأخرى؛ وذلك أنَّه تشريعٌ إلَهي في مصدره، وبَشري في تطبيقه، يتَّصِف بالاعتدال، والواقعية، وعدم المغالاة والتطرف في جميع نواحي الحياة الدِّينية والدُّنيوية[1].
فهو يستمدُّ أصولَه وجذوره من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إنَّ تعاليم الإسلام وتوجيهاته من خلال آياتِ القرآن الكريم والسنة النبوية غَطَّت نواحي الحياة كلها، التي أثَّرت بدَورها في الفكر الإداري في الإسلام[2].
وقد عَرَّفَ الدكتور حمدي عبدالهادي الفكرَ الإداري الإسلامي بأنَّه “مجموعة الآراء والمبادئ والنظريات، التي سادت حقلَ الإدارة، دراسةً ومُمارسةً عَبْرَ العصور والأزمنة، ويُعَدُّ تشريعًا إسلاميًّا ما يصدر من هذه الآراء والمبادئ والنظريات بالاستناد إلى توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية”[3]، كما أن التشريعَ الإسلامي تشريعٌ مُستقل بذاته يَختلف عن التيارات الفكرية الأخرى؛ حيثُ إنَّه فكر لا يتَّجه نحو الفكر المادي في الإدارة، ولا يتطرف نحوَ الاتجاه الإنساني في الفكر الإداري المعاصر، بل نجده فِكرًا يُحقق التوازُن والانسجام والتوافُق بين مصالِحِ الفرد والجماعة، فلا فرديةَ مطلقة، ولا جماعية مطلقة، فالمصالح متكافئة؛ بحيث لا تطغى بعضها على بعض، إنَّما تُكمِّل بعضها البعض.
ويرتكز الفكر الإداري الإسلامي على القيم الإنسانية الراقية، التي كانت تسُود المجتمع الإسلامِيَّ، والتي لا يزال الفكر المعاصر يَطْمَحُ إلى الوصول إليها، ولقد أوضح الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن أنَّ العمليات الإدارية، وما تتضمنه من الاهتمام بشؤون النشاط البشري الجماعي من حسن إدارة شؤون المجتمع وخدمته، من أجل تحقيق ما يرمى إليه من أهداف اجتماعية واقتصادية، وما تتطلبه هذه العمليات من تخطيط وتحديدٍ للأهداف، وتقديرٍ للاحتياجات، وتوفير الإمكانيَّات المادية والبشرية، ومن تنسيق ورقابة وقيادةٍ – كانت تُطبَّق في عهد الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – والعهدين الأموي والعباسي، مُستندًا إلى توجيهات الفكر الإسلامي المنزل، ولو لم تكن تُسَمَّى بأسمائها العصرية.
ويضيف الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن[4] أنَّ الانتكاسات التي تعرَّض لها العالم الإسلامي سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا أثَّرت فيه، وجعلتْه كالمطية يتأثَّر بالتيارات الفكريَّة، والسياسية، والاجتماعية الغربية، ويراها هي سبيلَ الحضارة، ويرى مع الأسفِ أنَّ كلَّ ما يربطه بالإسلام هو سببُ التخلُّف، كل هذا أسهم إسْهامًا كبيرًا في تَضليل العالم الإسلامي، بل صَوَّرَتِ الفكرَ الإداري الغربي وتطبيقاتِه ومُسَمَّياتِه على أنَّه السببُ الأساسي في تقدُّم الأمم، بينما الفكر الإداري الإسلامي بدايته تتزامَن مع بداية نزولِ القرآن الكريم بأول سورة نزلت: ﴿ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ﴾ [العلق: 1 – 5].
وهذا يثبتُ التاريخ الذي ظهر فيه الفكر الإداري الإسلامي بحوالي خمسة عشر قرنًا[5]، بينما نَجد الفكرَ الإداري الغربِيَّ يعود إلى ظهور المجتمع الصِّناعي في نِهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبالرغم من ذلك، نَجِد أنَّ الفكر الإداري الغربي هو الفكر السائد في الأمم الإسلامية[6]، وذلك كما أوضحنا في السابق؛ بسبب ما أصابَ العالَم الإسلامي من تَخلُّف، وبما يشتمل عليه من قوانين، وأنظمة، ومبادئ، وقيمٍ عَجَز أن يأتِيَ بمثلها الفكرُ الإداري الحديث في جوانبَ عِدَّة، وخاصة التي تَهدف إلى الرضا الإيماني، وكرامة الإنسان وعزته.
ولعلَّ أوضح دليل على نَجاح الإدارة الإسلامية، وتَمسُّكها بالمبادئ والقيم الإسلامية – النجاح الباهر في الفتوحات الإسلامية العظيمة شرقًا وغربًا، التي لم تكن لتتمَّ لولا تلك الإدارة الإسلامية الحازمة الجادة، التي انبثقتْ من العقيدة الإسلامية السَّمحة، والدين الإسلامي، الذي يربط كل السلوكيات والحياة بالدين، ولا يفرق بين الدين والحياة.
إنَّ مبادئَ وأنظمة الفكر الإداري الإسلامي قائمةٌ على عقيدة ثابتة لا تتغير، وقابلة للتطبيق في أيِّ زمان ومكان، عكس المبادئ والنظرِيَّات التي طرحها الفكرُ الإداري الغربي، التي تَختلف باختلاف قوانينه؛ حيث نَجده يتأثَّر بالأنظمة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فالفكر الإداري في المعسكر الاشتراكي يَختلف عنه في المعسكر الرأسمالي، بينما الفكر الإداري في الإسلام قابلٌ للتطبيق ولا يتغير؛ وذلك لأنَّ مصدره القرآن الكريم والشريعة الإسلامية، وهذا الفكر منهج حياة، وهو خير أداة للنهوض بالدول الإسلامية إذا أُحْسِنَ تطبيقُه.
لذا؛ نرى الدكتور أبو ركبة، والدكتور أبو غنيمة[7] بعد أنْ قاما بدارسةِ التنظيم الإداري في التشريع الإسلامي، يعترفان بكُلِّ صدق أنَّ العالَمَ الإسلامي لن يستطيعَ رفع كفاءة الأداء في الأجهزة والمؤسسات، إلاَّ إذا وضع الفكر الإداري الإسلامي وما يَحتويه من قيم رُوحية ومبادئ موضعَ الممارسة والتطبيق؛ وذلك لأَنَّ منبعَه العقيدة الخالدة، وتعاليم القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة.
وإنَّ الفكرَ الإداري الإسلامي فكرٌ شامل وكامل في مُختلف المجالات، ويَمنع التشتت والتشعب الذي وقعتْ فيه المدارس الفكرية الإدارية الغربية في مناهجها الوصفية المختلفة التقليدية والسلوكية، وغيرها من المناهج التي قد تشتَّتَتْ وتشعَّبت بشكل كبير، دفع أحدَ المفكرين إلى أنْ يُطلِقَ على هذه الحالة: “غابة نظريات الإدارة”[8]؛ لهذا فالفكر الإداري الإسلامي هو الفكر الإيماني الذي يُحقق الرضا والطمأنينة في الحياةِ الدنيا والآخرة، فعلى العالم الإسلامي أن يعتزَّ بهذا الفكر الإيماني، وأن يسعى إلى مُمارسته وتطبيقه، وأنْ يتخلَّص من عقدةِ الفكر الغربي، وأن ينهضَ دونَ خوف أو تردد؛ لأنَّه فكر رباني، مصدرُه الشريعة الإسلامية السمحة وتعاليمها وتوجيهاتُها، ونُحاول في الفصل التالي أنْ نُناقش مصادِرَ الفكر الإداري الإسلامي.
[1] عبدالله عبدالرحمن الفايز، “الفكر الإداري في الإسلام، وانعكاساته على الإدارة التربوية”، ص23. [2] محمد عبدالله الشيباني، “نظام الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية”، ص 12. [3] حمدي أمين عبدالهادي، “الفكر الإداري والإسلامي المقارن”، ص7. [4] أحمد إبراهيم أبو سن، “الإدارة في الإسلام”، مرجع سابق، ص 23. [5] د. عبدالرحمن إبراهيم الضحيان، ص 61. [6] د. عبدالله عبدالرحمن الفايز، مرجع سابق، ص 29. [7] حسن أبو ركبة، عبدالله أبو غنيمة، “التنظيم الإداري في الفكر الإسلامي”، ص 92. [8] المرجع السابق، ص 89.
_____________________________________________________________
الكاتب: الفريق عبدالعزيز بن محمد هنيدي
Source link