الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن وَالاَه، وبعد
فمما لا شك فيه أن مقولة (ثكلتك الآلهة) من الألفاظ المنكرة التي تؤول بصاحبها إلى الكفر؛ فكلمة الآلهة: تعني الأصنام أو غيرها مما يعبده الكفار من دون الله.
وقد ورد استعمال كلمة (آلهة)، في القرآن العظيم في قصص الأنبياء مع أقوامهم؛ كما قال الله عز وجلَّ عن إمام الحنفاء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ* فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ* قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 57- 59]، قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ* وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}[هود: 100، 101]، وقال سبحانه: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28]، ونحوها من الآيات التي تدل على أن استعمال لفظ (الآلهة) إنما يكون لإثبات الشريك أو إقراره أو الدعوة إليه، ونحو هذا من الاستعمال الذي يدل السياق على أنه محرم.
والعرب كانوا يقولون: ثكلتك أمك، وهي كلِمة تقولُها العرب للإنكار، ولا تُريدون بها حقيقتَها.
أما مقولة: (ثكلتك الآلهة)، ففيها إثبات آلهة مع الله تقدر أن تهلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، فلا إله إلا الله؛ “وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن”؛ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180].
وليحذر كل امرء لنفسه فإن من تكلم بكلمة الكفر كَفَرَ بالله تعالى، حتى لو كام مازحًا، ولم يقصد الكفر؛ فقد حكم الله بالكفر على أناس قالوا كلمة الكفر على سبيل المزاح؛ قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 177)
فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله”. اهـ.
وقال في “شرح العقيدة الأصفهانية” (ص: 196): “ولهذا كان التكلم بالكفر من غير إكراه كفرا في نفس الأمر عند الجماعة وأئمة الفقهاء حتى المرجئة خلافا للجهمية ومن اتبعهم”. اهـ.
وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } [النحل: 106]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية شارحًا لمعنى آية سورة (النحل) كما في “الصارم المسلول”(ص: 524):
ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط؛ لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره، ولم يرد من قال واعتقد؛ لأنه استثنى المكره؛ وهو لا يكره على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط= فعلم: أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك، إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المكرهين= فإنه كافر أيضًا، فصار كل من تكلم بالكفر كافرًا، إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وقال تعالى في حق المستهزئين: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، فبين أنهم كفار بالقول، مع أنهم لم يعتقدوا صحته، وهذا باب واسع، والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم… فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع، ولعدم الانقياد والاستسلام= فلذلك كان كفرا”. اهـ.
والحاصل أن قول: (ثكلتك الآلهة، أو نحوها: كلعنتك الآلهة، أو غيره: كحفظَتْكَ الآلهةُ، وأشباههما) إنما يقولها المشركُ؛ لأن المشركُ هو الَّذي عندَه آلهةٌ، أمَّا المؤمنُ فهو موحد، ولا يعبد إلا إلهًا واحدًا، ولكن يشترط للحكم بالكفر: أن يقصد المتكلم الكلام ويريده، فلو قالها ذاهلاً أو مكرهًا أو تاليًا، أو سبق بها لسانه من غير قصد للكلمة= فلا يكفر،، والله أعلم.
Source link