فيا من تريد التوفيق لعمل الآخرة، يا من تطلب تذليل الصعاب التي تحول بينك وبين السير الجميل إلى الله، حقِّق الاستعانة فإنَّ بها يَحسن السير وتَقْوى الإبانة.
اعلم أُخَيَّ أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، وأوجب عليهم تقواه والانشغال بطاعته؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
وامتحانًا من الله تعالى لهم، سلَّط عليهم من نفوسهم الأمارة بالسوء ومن شياطين الإنس والجن ما يُزين لهم المخالفة ويدعوهم إليها، وحَفَّ سبحانه طاعتَه بالمكاره ومخالفة أمره بالشهوات، ليرى سبحانه وتعالى من يُقبِل عليه بإرادة واختيار، ومن يلهو في بحار الشهوات، ويسرح في أودية الملذات، فينسى نفسَه والغايةَ من خلقه.
ولذلك كان لابد لمريد النجاة من وسائلَ تعينه على الطاعة وتثبته على العبادة:
1- الاستعانة بالله عز وجل:
وتلك أكبر المعينات وأعظمها على الإطلاق.
فالاستعانة بالله خيرُ معين، والركون إلى غير الله أكبر مهين، فمن أعانه الله فهو الموفق المعان، ومن خذله الله فهو المخذول المهان؛ قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: العبد محتاجٌ في كل وقت إلى الاستعانة بالله على طاعته وتثبيت قلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله[1].
ولأن حاجة العبد إلى الاستعانة بالله حاجةٌ ماسَّة، جمع تعالى بين العبادة والاستعانة في فاتحة الكتاب في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقال موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
وقال صلى الله عليه وسلم: «احرِص على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجِز…» [2].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: «اللهم أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل» [3].
فيا من تريد التوفيق لعمل الآخرة، يا من تطلب تذليل الصعاب التي تحول بينك وبين السير الجميل إلى الله، حقِّق الاستعانة فإنَّ بها يَحسن السير وتَقْوى الإبانة.
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى *** فأولُ ما يقضي عليه اجتهاده
2- استشعار ثواب القربات:
وكذلك من أعظم المعينات على عمل الصالحات: استشعار ثواب القربات، فإن المتأمل يرى أن الترغيب والترهيب، بذكر ما أعدَّه الله لأوليائه من نعيم، وما أعدَّه لأعدائه من عذاب أليم، أحدُ الموضوعات الرئيسة التي اشتملت عليها النصوص من آيات وأحاديث، فتأمَّل:
ما الذي جعل أبا طلحة يتصدق بأحب أمواله إليه بَيْرُحاء؟ يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برَّها وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله! الذي دفعه إلى ذلك، الذى شجعه على ذلك، استشعاره لموعود الله بالأجر والثواب، وهكذا جاءت النصوص كثيرة تؤكد هذا المعنى العظيم.
تأمل:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفَّتهم الملائكة، وغشِيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده» [4].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أنظَر معسرًا أو وضع عنه، أظله الله في ظله» [5].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» [6].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا، بنى الله له بيتًا في الجنة مثله» [7].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السُّنة، بُني له بيت في الجنة: أربعٍ قبل الظهر وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» [8].
3- المجاهدة:
قال ابن الجوزي رحمه الله: النفس مجبولة على حب الهوى، فافتقرت لذلك إلى المجاهدة والمخالفة..[9].
فقد اتفق العلماء والحكماء على أنه لا سبيل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات؛ قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 ]، وقال صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل» [10].
قال ابن بطال: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل[11].
فالنفس عدو منازِع، يجب على المرء مجاهدتها، وحين يفلح المرء في ذلك، فإن إتيان الطاعات يتحول إلى لذة ونعيم، وعندها لا يجد المرء في القيام بها كلفةً ومشقة.
كما قال ثابت البنانيُّ: كابدتُّ القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة[12].
فالأنس بالله واللذة، إنما يحصلان من المداومة على المكابدة مدة طويلة.
ومما يعين على المجاهدة: تركيز النفس بعاقبة الانغماس في الشهوات؛ قال قتادة: إن الرجل إذا كان كلما هوى شيئًا ركِبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى، فقد اتخذ إلهه هواه[13]، وقال يحيى بن معاذ: من أرضى الجوارح في اللذات، فقد غرس لنفسه شجر الندامات[14].
فيا مجتهدًا في تحصيل نعيم المولى، اجعل أعمال الآخرة هي الأَولى، وجاهِد نفسك وَفق الشرع، وإياك أن تُهمل قيادتها فتَسوقك إلى نار تلظَّى.
4- قِصَرُ الأمل:
العلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء حياة المرء، من أنفع الأمور للقلب، ومن أعظم العون على التعبد، ففي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزورها فإنها تذكِّر الآخرة».
قال الأوزاعي: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير[15].
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: طول الأمل واتباع الهوى، أما طول الأمل فإنه يُنسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق[16]، وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل[17].
فيا ناصحًا لنفسه أقْصِر الأمل واستعد للحساب قبل حلول الأجل.
5- معرفة فقه العمل للآخرة:
ولا سبيل إلى هذا الفقه إلا بثلاثة أمور:
الأول: المسارعة إلى العمل؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
قال ابن بطال: الخير ينبغي أن يُبادَر به، فإن الآفاتِ تَعرِض والموانع تَمنَع، والموت لا يؤجل، والتسويف غير[18].
الثاني: المداومة على العمل:
ففي صحيح مسلم سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ فقال: «أدومه وإن قل»، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عمله صلى الله عليه وسلم دِيمًا، وفي صحيح مسلم، قالت: وكان إذا عمل عملًا أثبته.
وحتى يتمكن العبد من الاستمرار في الطاعة، والمداومة عليها، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتصاد في العبادة، ونهى عن التشديد على النفس فيها، ففي البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القصد القصد تبلغوا».
وعند مسلم: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بحبل ممدود بين ساريتين، فقال: «ما هذا الحبل»؟ قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حُلُّوه، ليُصلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فتر فليرقُد.
وكذلك فإن فهم طبيعة النفس من أعظم معينات العبد على مداومة العمل الصالح، إذ لها إقبال وإدبار؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «لكل عابد شِرَّة، ولكل شِرةٍ فترة، فإمَّا إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فتْرته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» [19].
ومما يعين على المداومة: قضاء ما فات وعدم تفويته بالكلية، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه من الليل أو عن شيءٍ منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل» [20].
وفيه دليلٌ على أن كل وِرْدٍ من قول أو فعل، يفوت الإنسان، أنه يثبت له أجره إذا قضاه كاملًا.
الثالث: تنويع العمل:
تنويع الطاعات سبيل قويم إلى المداومة عليها، ويظهر ذلك جليًّا لَما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: «من أصبح منكم اليوم صائمًا»؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تَبِعَ منكم اليوم جنازة»؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم اليوم مسكينًا»؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا»؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» [21].
[1] قاعدة في المحبة. [2] رواه مسلم. [3] رواه الترمذي وأبو داود وسنده صحيح. [4] رواه مسلم. [5] رواه مسلم. [6] رواه البخاري. [7] رواه الشيخان. [8] رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي وصححه الألباني. [9] صيد الخاطر. [10] رواه أحمد وسنده صحيح. [11] فتح الباري / ابن حجر. [12] إحياء علوم الدين. [13] جامع العلوم والحكم / ابن رجب. [14] ذم الهوى / ابن الجوزي. [15] سير أعلام النبلاء / الذهبي. [16] حفظ العمر / ابن الجوزي. [17] قصر الأمل، لابن أبي الدنيا. [18] فتح الباري / ابن حجر. [19] رواه أحمد وسنده صحيح. [20] رواه مسلم. [21] رواه مسلم.
__________________________________________________________________
الكاتب: د. شريف فوزي سلطان
Source link