إن من ثمرات الصيام وأهدافه أن يتربى المسلم على معاني الصدق في الأقوال والأفعال والنيات، فالصوم يغرس في نفسه هذه القيمة العظيمة؛ لتكون سلوكًا في حياته وصفة من صفاته
الحمدُ لله معطي الجزيل لمنْ أطاعه ورَجَاه، وشديد العقاب لمن أعرضَ عن ذكره وعصاه، اجْتَبَى من شاء بفضلِهِ فقرَّبَه وأدْناه، وأبْعَدَ مَنْ شاء بعَدْلِه فولَّاه ما تَولَّاه، منْ تعدَّى حدوده وأضاع حقُوقَه خسِر دينَه ودنياه، ومن التزم حدوده وأطاعه وفَّقه في الدنيا وحقَّق في الآخرة مُناه، أحْمدُه على ما تفضَّل به من الإِحسانِ وأعطاه، وأشْكره على نِعمهِ وفضله وما أوْلاه، وعد الصادقين بمغفرته وهداه، وتفضل عليهم بمحبته ورضاه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، الكاملُ في صفاتِهِ، المتعالي عن النُّظَراءِ والأشْباه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اختاره ربُّه على البشر واصْطفاه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما انْشقَّ صبحُ وأشْرقَ ضِياه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فعباد الله: إن من ثمرات الصيام وأهدافه أن يتربى المسلم على معاني الصدق في الأقوال والأفعال والنيات، فالصوم يغرس في نفسه هذه القيمة العظيمة؛ لتكون سلوكًا في حياته وصفة من صفاته، فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهوته طاعةً لله، ويستطيع أن يأكل ويشرب، ويظهر لمن حوله أنه صائمٌ، لكن منعه من ذلك الصدق مع الله، وقد يمتنع الصائم عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، وهذا لا يكفي حتى يسمى صائمًا، ويكون صومه صحيحًا، بل عليه كذلك أن يسعى لأن تصوم جوارحه، ومن يفعل ذلك يكون صادقًا مع الله وصومه صحيحًا؛ يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه «الوابل الصيب من الكلم الطيب» (ص46) وهو يصف الصائم الحق، فقال: والصائمُ هو الذي صامت جوارحُه عن الآثام، ولسانُه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنُه عن الطعام والشراب، وفرجُه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرحُ صومَه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومَه، فيخرج كلامه كلُّه نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يَشُمها من جَالس حامل المسك، كذلك مَن جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأَمِن فيها من الزُّور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصومُ المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب،…اهـ.
ولأهمية الصدق وأثر الصوم في تربية المسلم عليه، فقد ربط صلى الله عليه وسلم بين صدق اللسان وسلامة المنطق وبين الصيام الحقيقي، فقال: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»؛ (رواه البخاري (1903))، وكم من محرومٍ لم يدرك ثمرة الصوم وغايته في تهذيب النفوس وعلاج الاختلالات في السلوك، فالله سبحانه وتعالى لا يحتاج منك إلى ترك الطعام والشراب، ولم تترك سوء الأخلاق والتي منها الكذب وقول الزور وتحريف الكلام وطمس الحقائق؛ قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ((إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ، وَدَعْ عَنْكَ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً))؛ البيهقي في «شعب الإيمان» (3374).
فما أحوجنا اليوم إلى أن نعود إلى خُلق الصدق ونستفيد من رمضان ومن عبادة الصيام في تربية النفوس عليه، في زمن أصبح هذا الخلق غريبًا ومفقودًا في كثير من جوانب حياتنا إلا مَن رَحِمَ الله، والصدق هو قول الحق والالتزام به ومطابقة الكلام للواقع، وقد أمر الله تعالى بالصدق، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، ووصف الله نفسه بالصدق وكفى به شرفًا، فقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، فلا أحد أصدق من الله قولًا ولا حديثًا ولا وعدًا، قال تعالى على لسان عباده في الدنيا وهم يجدون صدق الله في وعده: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22]، وفي الآخرة يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر74].
والصدق فيه النجاة في الدنيا والآخرة، وفيه الثناء والذكر الحسن عند الله وعند الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق، حتى يُكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا»؛ (رواه مسلم).
فمن يحب أن يُكتب عند الله كذابًا، فيُفضَح عند أهل الأرض وعند أهل السماء؟ والله تعالى يقول عنهم: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]. والصدق مرتبط بالإيمان، فقد سأله الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: «نعم»، قيل له: أيكون المؤمن كذَّابـًا؟ قال: «لا»؛ (حديث صحيح) وضمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتًا في الجنة لمن يلتزم بالصدق في أقواله وأفعاله، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة (أطرافها) لمن ترك المراء وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقُه»؛ (أبو داود).
أيها الصائمون عباد الله، الصدق يكون مع الله في الالتزام بدينه وتطبيق أحكامه، وتقديم حبِّه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم على كل حب؛ قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، ويكون بإخلاص الأعمال والصدق في التوبة والإنابة، فالصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر العبادات، يجب أن تكون لله في رمضان وغير رمضان، في المنشط والمكره في العسر واليسر؛ قال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
والاستقامة على دين الله والمحافظة على العبادات، وحب هذا الدين والتضحية من أجله، شعار الصادقين وسبيل المؤمنين، وسر نجاحهم، وقد أثنى الله على المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدقهم وتحمُّلهم والتزامهم بهذا الدين، فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
هذا عبدالله ذو البجادين رضي الله عنه مات أبوه وهو صغير، فكفَله عمُّه وأعطاه من ماله الشيء الكثير، فلما أصبح شابًّا إذا به يسمع بمحمد صلى الله عليه وسلم وهجرته، فاشتاقت نفسه للإسلام ولرسول الإسلام، فاستأذَن عمه للهجرة واللحاق رسول الله، لكنَّ عمَّه وقومه غضبوا منه، وقال له عمه: والله لئن اتبعت محمدًا لا أترك بيدك شيئًا كنت أُعطيتك إلا نزعتُه منك، وأخذ ماله وأغنامه وكلَّ أمتعته، ثم التفت إليه عمه فوجده في ثياب حسنة فطلبها منه, ولم يتردَّد عبدالله ذو البجادين، بل خلع الثياب وردَّها على عمه، حتى أصبح عاريًا تحت حرارة الشمس وغبار الصحراء، ولَما رأتْ أمُّه ما حلَّ به أشفقت عليه، فلم تجد سوى (بجاد)؛ أي كساء مخطَّط من صوف غليظ خشن, أعطته ولدها ليستتر به, فشقَّه نصفين, جعل نصفه إزارًا يَستر به أسفل جسده, ونصفه ليستر أعلى جسده، فلما وقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة، فرح النبي واستبشر بقدومه، وحسُن إسلامه وشارك مع النبي في غزواته، ويوم تبوك في السنة 9 من الهجرة، خرج مع جيش المسلمين، وفي ليلة من الليالي يحدثنا عنها الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قمتُ في جوف الليل في تبوك، فرأيت شعلة نار في ناحية المعسكر، قال: فاتَّبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزَني قد مات, وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يُدليانه إليه، وهو يقول: أَدْنيا إليَّ أخاكما, فدلَّياه إليه, فلما وضعه في لحده قال: اللهم إني قد أمسيت راضٍ عنه فارضَ عنه، يا لها من دعوة ويا له من وسامٍ، ويا لها من عظمة؛ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: يا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة، ووالله لقد وَدِدتُ لو كنت مكانه, ولقد أسلمتُ قبله بخمس عشر سنة، إنه الصدق مع الله الذي بلَّغهم هذه المنازل العالية.
عباد الله، ويكون الصدق في الأقوال وفي الشهادة وفي النصح، والدلالة على الخير والتحذير من الشر، فلا يكذِب المسلم في حديثه مع الآخرين، وقد عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من أكبر الخيانات، فقال: «كَبُرَتْ خيانة أن تحدِّث أخاك حديثًا، هو لك مصدِّق، وأنت له كاذب»؛ (رواه أحمد).
وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب في الحديث، وعدَّه من النفاق، فقال صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان»؛ (متفق عليه)، وحذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهادة الزور وقول الزور، وعدَّه العلماء من كبائر الذنوب، وما أكثر ما تضيع الحقوق والأموال، ويُرتكب الظلم وتُطمس الحقائق بسبب قول الزور وشهادة الزور، فالصدق في الأقوال يجب أن يكون واضحًا وجليًّا في سلوك المسلم في أُسرته وفي تعامله مع أولاده وجيرانه، وفي وظيفته ومع طلابه وزملائه؛ عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: تعالَ أعطِك، فقال لها: «ما أردتِ أن تعطيه»؟، قالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليك كذبة»؛ (أبو داود)، والله تعالى يقول عن إسحاق ويعقوب عليهما السلام مبينًا فضله عليهم: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50].
والمذيع والصحفي في جريدته لا ينبغي له أن يختلق الأقوال الكاذبة والأخبار الكاذبة؛ ليجذب الناس إليه، فعليه أن يتحرَّى الصدق.
إن هذه الأمة أمةُ صدقٍ، ومتى ما تخلى أبناؤها عن هذا الخلق، ظهَرت فيهم الخيانة وضاعت من حياتهم الأمانة، وظهر بينهم التنازع والفشل، وتسلَّط عليهم العدو، وسقطوا من عين الله وعيون الناس.
عباد الله، يكون الصدق في التعامل مع الآخرين، فالمهندس والبنَّاء والعامل والتاجر وصاحب المصنع، يجب أن يقوم كلُّ واحد منهم بواجبه، فلا غش ولا خداع ولا انتهازية؛ من صدق مع الله يجب أن يصدُق مع خلقه؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعَان ِبِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا – أوْ قَالَ- حَتَّى يَتَفَرَّقَا – فَإنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَاِنْ كَتَمَا وكذبا مُحقت بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»؛ (صحيح البخاري).
والحاكم المسلم يجب أن يكون صادقًا مع أمته وشعبه، صادقًا في حكمه وعدله، صادقًا في رعايته لأُمته وشعبه، فلا وعود كاذبة أو مشاريع وهمية، بل يكون ناصحًا وأمينًا وصادقًا في قوله وفعله، عند ذلك يُسمع ويُطاع، وتُحبه القلوب، وتَلهج بذكره والثناء عليه الألسنُ، ويَفتح الله له من توفيقه ورحمته ما يشاء، وقد حذَّر صلى الله عليه وسلم من عدم الصدق في هذا المقام، فقال: «ثلاثة لا ينظُر الله إليهم، ولا يزكِّيهم ولا يكلِّمهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم»، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر»؛ (رواه مسلم (107)).
أيها الصائمون عباد الله، إن الصوم يعلمنا الصدق بكل معانيه، فمن صدَق مع الله في عبادته، لابد أن يصدُق مع خلقه في سلوكه ومعاملاته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وُصف بالصدق حتى قبل البَعثة، وكان دينه الصدقَ من أول يوم، وتربَّى أصحابه على ذلك، وحمل المسلمون هذا الخُلق في فتوحاتهم وتجارتهم ورحلاتهم إلى بلاد الدنيا وأصقاع الأرض، فدخل الناس في دين الله أفواجًا.
فلنتحرَّ الصدق في أقوالنا وأفعالنا، ونستفيد من شهر رمضان وفريضة الصيام في تربية النفوس على ذلك، فوالله إنه لا ينفع الإنسان يوم القيامة إلا صدقُه، ولنُكثر من الدعاء: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الاسراء:80].
هذا وصلُّوا وسلِّموا على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
__________________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري
Source link