عباد الله! ها أنتم في أواخر شهركم الذي ما أسرع ما تصرمت أيامه ولياليه، ولما ينتهي هذا الشهر بعد، شهرٌ جعل الله جَلَّ وَعَلَا فيه مواسم الخيرات من عباده، فيبادرون فيهِ إلى مرضاته، ويستفتحون أسباب رحماته، شهرٌ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر
عباد الله! ها أنتم في أواخر شهركم الذي ما أسرع ما تصرمت أيامه ولياليه، ولما ينتهي هذا الشهر بعد، شهرٌ جعل الله جَلَّ وَعَلَا فيه مواسم الخيرات من عباده، فيبادرون فيهِ إلى مرضاته، ويستفتحون أسباب رحماته، شهرٌ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، ليس لكل أحد ولكن لمن قامها إيمانًا بالله وعبودية واحتسابًا للثواب منه سبحانه لا من غيره، ليلة القدر هذه الليلة الشريفة التي خصَّ الله جَلَّ وَعَلَا بها أمةَ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسبقت بها الأُمم قبلها، فكما أخبرنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآخرون السابقون يوم القيامة، آخر الناس أعمارًا وزمانًا وأسبقهم إلى الله جَلَّ وَعَلَا أعمالًا وإيمانًا.
وليلة القدرِ يا عباد الله هي ليلةٌ متنقلةٌ في أظهر القول للعلماء رَحِمَهُم اللهُ ولهذا أخفاها الله جَلَّ وَعَلَا على هذه الأمة لتجتهد في العبادةِ في ليالي الشهر ولاسيما في ليالي العشر الأخيرة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان» (أخرجاه في الصحيحين) .[1]
وهذه الليلة ليس لها رسومٌ أو طقوسٌ مخصوصة فيها إلا ما جاء في الصحيحين في قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الجامعِ في فضل رمضان في صيامه وقيامه فعن أبي هريرة رَضِيَ اَللَّهُ عَنْه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه»[2]، وليس من خصوصية هذه الليلة تخصيصها بالعُمرة كما يكون الحرمُ في هذه الليلة أزحم ما يكون على مدارِ عامه، العمرةُ يا عباد الله لها فضيلةٌ في رمضان كله وليست في ليلةِ سبعٍ وعشرين منه على خلاف الخُصوص، إن تخصيص ليلة السابعِ والعشرين من رمضان بالاعتمار أو بالطواف تخصيصها بهذا العمل بدعةٌ إباضية وبدعة تخصيصية لم يشرعها الله ولا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا تُخصُّ ليلة سبعٍ وعشرين أيضًا بأن تكون مقامًا للاحتفالات والمهرجانات، وأعظم من ذلك أن تكون ميدانًا للرفثِ واللعبِ واللهو، فليس لهذه الليلة ولا لغيرها هذه الخُصوصية، وإنما هي ليلةٌ يرجى ولا نقطعُ يرجى أن تكون ليلةُ القدرِ من غيرِ تعيين لها في أصحِّ أقوال العلماء رَحِمَهُم اللهُ.
عباد الله! قضى ما قضى من شهركم ومضى ما مضى من أعمالكم وما كان فيها من تحصيلٍ وإسراف، فالله الله في ابتدار الكتاب لما بقي من شهركم لعلكم أن تُشملوا برحمة ربكم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يتعرَّض لأوليائه في هذه المواسِم الطيبة وفي هذه الليالي الخيِّرة التي هي أفضل ليالي العامِ على الإطلاق، فتعرَّضوا لرحمات ربكم بعملٍ صالحٍ له وحده سبحانه على وِفقِ ما شرعه نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واحذروا التسويف واحذروا التأجيل فهي أيامٌ وليالي ما أسرعَ ما تنقضي من أعمالكم، واعتبروا يا رحمكم الله بمن قضى من أحبتكم فلم يُدركوا هذا الشهر ولم يُدركوا ليالي العشر، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3].
إن من إكمال صيامكم وإتمام ما كان فيهِ من عملكم أداءُ زكاة الفطر قبل خروجكم من صلاةِ العيد، إن صدقة الفطر يا عباد الله فريضةٌ فرضها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصغير والكبير، والذكر والأُنثى، والحر والعبد من المُسلمين صاعًا من تمر: أي ما يعال ثلاثة كيلو جرامات من أوزان الناس في هذه الأيام، يُخرجُ عن كل واحدٍ من هؤلاء ولو كان الصغير عمره أقل من ساعة أو كان عمره مائة سنة، هذه الصدقة فرضها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المستطيعين تُدفعُ إلى الفقراء طُعمةً لهم وقربةً لكم أيها الصائمون عما لقي صومكم من الرفث والفسوق، فهي فضيلةٌ عظيمة فيها مواساةٌ من الأغنياءِ للفقراء، وفيها تنقيةٌ لصومكم مما لحقه من هذه العيوبِ والنقائِص.
صدقة الفطر يا عباد الله يُخرجها ولي أمر البيت الذي يقوم على نفقته عن نفسهِ وعن من يعول صغيرًا كان أو كبيرًا، ويُستحب إخراجها عن حمل المرأةِ في بطنها يستحب ذلك كما أفتى بهِ الخليفة الراشد عثمانُ بن عفَّان رَضِيَ اَللَّهُ تَعَالَى عَنْه وأرضاه، متى تُخرج هذه الزكاة؟ تُخرج زكاة الفطر يا عباد الله قبل صلاةِ العيد في أفضل ما يكون وفي وقتِ إخراجها، وقد أجاز الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ من كانوا يُخرجونها قبل العيد بيومٍ أو يومين، فإذا غربت شمس يوم السابعِ والعشرين من رمضان صحَّ إخراجُ هذه الزكاة، وتُخرجُ كما أمر بها وفرضها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صاعًا من طعام، صاعًا من تمرٍ أو من أقط أو من شعيرٍ أو من زبيب»، كما جاء بذلك الحديثانِ الصحيحان حديث ابن عمر[3] وحديث أبي سعيدٍ الخُدري [4]رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا في الصحيحين.
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن أصدق الحديث كلامُ الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمورِ محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم عباد الله بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، ولا يأكل الذئب إلا من الغنم القاصية، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، اللهم وارضَ عن الصحابةِ والقرابة، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
Source link