التوبة في القرآن الكريم – طريق الإسلام

يرجع جذر (التوبة) إلى (توب) والتاء والواو والباء كلمة واحدة، تدل على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه، أي: رجع عنه، يتوب إلى الله توبة ومتاباً، فهو تائب. والتوب: التوبة، قال تعالى: {وقابل التوب} [غافر:3].

يرجع جذر (التوبة) إلى (توب) والتاء والواو والباء كلمة واحدة، تدل على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه، أي: رجع عنه، يتوب إلى الله توبة ومتاباً، فهو تائب. والتوب: التوبة، قال تعالى: {وقابل التوب} [غافر:3].

وتاب إلى الله توباً وتوبة ومتاباً وتابة وتَتْوِبَة: رجع عن المعصية، وهو تائب وتواب. وتاب الله عليه: وفَّقه للتوبة، أو رجع به من التشديد إلى التخفيف، أو رجع عليه بفضله وقبوله، وهو تواب على عباده. و(التائب) يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة؛ فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده، و(التواب) العبد الكثير التوبة؛ وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركاً لجميعه، وقد يقال لله ذلك؛ لكثرة قبوله توبة العباد حالاً بعد حال.

والتوبة في الشرع: هي الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الأفعال الممدوحة. و(التوبة النصوح) ألا يبقى على عمله أثراً من المعصية سرًّا وجهراً. قال الطبري: “التوبة من العبد على ربه: إنابته إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه، بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيماً مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه”.

التوبة في الاستعمال القرآني:

وردت مادة (توب) في القرآن سبعاً وثمانين (87) مرة؛ وردت بصيغة الماضي أربعاً وثلاثين (34) مرة، وبصيغة المضارع إحدى وعشرين (21) مرة، وبصيغة الأمر ثماني (8) مرات، وبصيغة المصدر ثماني (8) مرات، وبصيغة اسم الفاعل (2) مرتين، وبصيغة المبالغة اثني عشرة (12) مرة.

وجاءت التوبة في القرآن على وجهين؛ الأول: الندم على فعل الشيء والرجوع عنه، منه قوله تعالى: {قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف:143] أي: ندمت ورجعت إليك. الثاني: التجاوز، ومنه قوله عز وجل: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء:27] أي: يتجاوز عن ذنوبكم.

الألفاظ ذات الصلة:

– الاعتذار: (اعتذر) فلان: صار ذا عذر، و(اعتذر) إليه طلب قبول معذرته، ويقال: اعتذر من ذنبه، واعتذر عن فعله: تنصل واحتج لنفسه، و(اعتذر) من فلان: شكاه. و(الاعتذار) اصطلاحاً: تحري الإنسان ما يمحو به أثر ذنبه، وذلك ثلاثة: أن يقول: لم أفعل، أو فعلت لأجل كذا، فيذكر ما يخرجه عن كونه ذنباً، أو فعلت ولا أعود، ونحو ذلك، والثالث هو التوبة، فكل توبة عذر ولا عكس. والصلة بين التوبة والاعتذار أن التائب مقر بالذنب الذي يتوب منه، معترف بعدم عذره فيه، والمعتذر يذكر أن له في ما أتاه من المكروه عذراً، ولو كان الاعتذار التوبة لجاز أن يقال: اعتذر الى الله، كما يقال: تاب إليه، وأصل العذر إزالة الشيء عن جهته، اعتذر إلى فلان فعذره، أي: أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة، أو في الظاهر.

– الندم: (ندم) على الأمر ندماً وندامة: أَسِفَ وكرهه بعد ما فعله، فهو نادم. و(الندم) اصطلاحاً: التحسر من تغير رأي في أمر فائت. والصلة بين الندم والتوبة، أن التوبة من الندم؛ وذلك أنك قد تندم على الشيء، ولا تعتقد قبحه، ولا تكون التوبة من غير قبح، فكل توبة ندم، وليس كل ندم توبة.

– الاستغفار: (استغفر) طلب المغفرة، واستغفر الله ذنبه: طلب منه غفره. و(الاستغفار) اصطلاحاً: طلب ستر الذنب والعفو عنه، وعدم العقوبة عليه. والصلة بين الاستغفار والتوبة، أن الاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق. وأما عند اقتران إحدى اللفظين بالآخر، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.

– الإصرار: (أصر) على الأمر: ثبت عليه ولزمه، وأكثر ما يستعمل في الآثام، يقال: أصر على الذنب. و(الإصرار) اصطلاحاً: التعقد في الذنب، والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه، قال تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} [آل عمران:135]. والعلاقة بين (الإصرار) و(التوبة) علاقة تضاد؛ فالعبد إذا عصى وطال زمان التوبة، وقع في الإصرار، قال سبحانه: {ثم يتوبون من قريب} [النساء:17] أي: تبتدئ التوبة من زمانٍ قريب من زمان المعصية؛ لئلا يقع في الإِصرار.

اقتران التوبة بالإصلاح والاستغفار:

قرن سبحانه بين (التوبة) و(الإصلاح) في مواضع عديدة من كتابه، من ذلك قوله عز وجل: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله} [النساء:146] وقوله سبحانه: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} [آل عمران:89] ونحو ذلك من الآيات التي تدل دلالة واضحة على أنه ليس المقصود بالتوبة ترك القبيح فحسب، بل يجب فعل الحسن، وهو الإصلاح. لذلك شرط تعالى في توبة أهل الكتاب، الذين كان ذنبهم كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى ليضلوا الناس بذلك، أن يصلحوا العمل في نفوسهم، ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم إياه، كما شَرَط في توبة المنافقين الذين كان ذنبهم إفساد قلوب ضعفاء المؤمنين وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول وإظهارهم الإسلام رياء وسمعة، أن يصلحوا بدل افسادهم، وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين، وأن يخلصوا دينهم لله بدل إظهارهم رياء وسمعة.

يشار إلى أن هناك أعمالاً طلب الله فيها التوبة فحسب، وأعمالاً طلب فيها التوبة والإصلاح، وأعمالاً طلب فيها التوبة والإصلاح والبيان.

ثم إنه سبحانه قرن بين (التوبة) و(الاستغفار) على ألسنة رسله، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا} [هود:3] وخاطب هود عليه السلام قومه، بقوله: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود:52] وخاطب شعيب عليه السلام قومه، فقال: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} [هود:90].

وقيل في العلاقة بين (التوبة) و(الاستغفار): أن “(التوبة) هي الرجوع إلى الله مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً؛ ندماً على ما مضى، وتركاً في الحال، وعزماً على أن لا يعود، و(الاستغفار) طلب المغفرة من الله، فإن اقترن به توبة فهو الاستغفار الكامل الذي رتبت عليه المغفرة، وإن لم تقترن به التوبة، فهو دعاء من العبد لربه أن يغفر له، فقد يجاب دعاؤه، وقد لا يجاب، وهو بنفسه عبادة من العبادات، فهو دعاء عبادة، ودعاء مسألة”.

* التواب من أسماء الله تعالى

من أسمائه الحسنى سبحانه (التواب) وفي هذا دلالة على عظم شأن التوبة.

أولاً: معنى اسم الله التواب: قال الطبري: “إن الله جل ثناؤه هو التواب على من تاب إليه -من عباده المذنبين- من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه”. وجاء (تواب) على أبنية المبالغة؛ لقبوله توبة عباده، وتكرير الفعل منهم دفعة بعد دفعة، وواحداً بعد واحد على طول الزمان، وقبوله عز وجل ممن يشاء أن يقبل منه، فالعبد يتوب إلى الله عز وجل، ويقلع عن ذنوبه، والله يتوب عليه، أي: يقبل توبته، فالعبد تائب، والله تواب. فهو التائب على التائبين أولاً، بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب عليهم بعد توبتهم قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم.

ثانياً: الأسماء المقترنة باسم التواب: اقترن اسم الله سبحانه (التواب) باسمين من أسمائه سبحانه؛ هما: (الرحيم) و(الحكيم) بيانه:

1- الرحيم: اقترن اسم الله سبحانه (التواب) باسم (الرحيم) في تسع آيات، منها: قوله سبحانه: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة:37]. ومناسبة هذا الاقتران أن توبة الله على عباده، وتوفيقهم إليها، ثم قبولها منهم، هو من آثار رحمته تعالى وبِره وإحسانه. قال الطبري: “فهو سبحانه الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفق من أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه، (الرحيم) بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه”. وقال السعدي: “{التواب} أي: كثير التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، {الرحيم} وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين، في جميع اللحظات، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية”.

2- الحكيم: اقترن اسم (التواب) باسم (الحكيم) في آية واحدة، وتلك قوله عز وجل: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم} [النور:10] فهو سبحانه {تواب} يقبل العاصين من عباده، ويردهم إلى دائرة الإيمان، إذا هم تابوا وأصلحوا، وهو سبحانه {حكيم} في ما حدَّ من حدود للمعتدين على حدوده. قال ابن عاشور: “وفي ذكر وصف (الحكيم) هنا مع وصف (تواب) إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة، وهي استصلاح الناس”.

مجالات التوبة:

تنوعت مجالات التوبة، وتنوعت معها بالتالي شروطها، بيان ذلك:

أولاً: التوبة عن الكفر والشرك: أرسل سبحانه أنبياءه ورسله لدعوة أقوامهم إلى التوبة من الكفر والشرك، بأمرهم بالاستغفار من الشرك، ثم بالتوبة من بعده، فهذا هود يخاطب قومه بقوله: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا} [هود:52] أي: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم. و(الاستغفار) هو الإيمان بالله في هذا الموضع؛ لأن هوداً عليه السلام إنما دعا قومه إلى توحيد الله؛ ليغفر لهم ذنوبهم، ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به. والذنب الذي طلب هود قومه التوبة منه هو الشرك، قال أبو بكر الأصم: “{استغفروا} أي: سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم، ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى، وبالعزم على أن لا تعودوا إلى مثله”.

وقال صالح عليه السلام: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} [هود:61] أي: اعملوا عملاً يكون سبباً لستر الله عليكم ذنوبكم؛ وذلك الإيمان به، وإخلاص العبادة له دون ما سواه، واتباع رسوله، واتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم، إلى ما يرضاه ويحبه؛ فإن ربي قريب ممن أخلص له العبادة، ورغب إليه في التوبة، مجيب له إذا دعاه.

وتفيد الآية أنه يجب على كل داعٍ إلى الله أن يحبب عباد الله إلى خالقهم، ويبشرهم بحبه سبحانه لتوبتهم، واستجابته من تاب إليه.

وقال شعيب عليه السلام: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} [هود:90] أي: {واستغفروا ربكم} من سالف الذنوب {ثم توبوا إليه} فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، وقوله: {إن ربي رحيم ودود} لمن تاب. ويستفاد من الآية أن الله شديد المحبة لمن يتقرب إليه بالتوبة.

وقال عز وجل: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [الأعراف:153] فهذا خبر من الله تعالى، أنه قابل من كل تائب إليه من ذنب أتاه، صغيرة كانت معصيته، أو كبيرة، كفراً كانت أو غير كفر، كما قَبِلَ من عبدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم. ويستفاد من الآية، أنه سبحانه يقبل توبه عباده من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق.

وقال عز من قائل: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} [التوبة:5] {فإن تابوا} من شركهم {وأقاموا الصلاة} أي: أدوها بحقوقها {وآتوا الزكاة} لمستحقيها {فخلوا سبيلهم} أي: اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {إن الله غفور رحيم} يغفر الشرك فما دونه للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم.

ورغَّب سبحانه المشركين في التوبة، ورهَّبهم من الاستمرار على الشرك، فقال: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} [التوبة:3] أي: {فإن تبتم} من كفركم، أيها المشركون، ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له -دون الآلهة والأنداد- فالرجوع إلى ذلك {خير لكم} من الإقامة على الشرك في الدنيا والآخرة، وإن أدبرتم عن الإيمان بالله، وأبيتم إلا الإقامة على شرككم، فأيقنوا أنكم لا تفيتون الله بأنفسكم من أن يحل بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد، على إقامتكم على الكفر، كما فعل بمن قبلكم من أهل الشرك من إنزال نقمه به، وإحلاله العذاب عاجلاً بساحته، وأَعْلِمْ -يا محمد!- الذين جحدوا نبوتك، وخالفوا أمر ربهم، بعذاب موجع يحل بهم.

وهذا الترهيب وذاك الترغيب في آية البراءة يشيران إلى طبيعة المنهج الإسلامي، إنه منهج هداية قبل كل شيء، فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لا لمجرد أنه لا يحب أن يباغتهم ويفتك بهم متى قدر -كما كان الشأن في العلاقات الدولية ولا يزال!- ولكنه كذلك يمهلهم هذه المهلة للتروي والتدبر، واختيار الطريق الأقوم، ويرغبهم في التوبة عن الشرك، والرجوع إلى الله، ويرهبهم من التولي، وييئسهم من جدواه، وينذرهم بالعذاب الأليم في الآخرة فوق الخزي في الدنيا، ويوقع في قلوبهم الزلزلة التي ترجها رجًّا، لعل الركام الذي ران على الفطرة أن يُنفض عنها، فتسمع وتستجيب!

ثانياً: التوبة عن النفاق: استثنى سبحانه من الوعيد في الدرك الأسفل من النار من آمن من المنافقين، وأصلح حاله، واعتصم بالله، دون الاعتزاز بالكافرين، وأخلص وجهه لله، قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} [النساء:145-146] يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب، وأشر الحالات من العقاب، فهم تحت سائر الكفار؛ لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين، على وجه لا يُشْعَرُ به ولا يُحَسُّ، ورتبوا على ذلك جريان أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق ما لا يستحقونه، فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب، وليس لهم منقذ من عذابه ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا من منَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات،  {وأصلحوا} له الظواهر والبواطن، والتجأوا إليه في جلب منافعهم ودفع المضار عنهم. {وأخلصوا دينهم} -الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان- فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة، وسلِمُوا من الرياء والنفاق، فمن اتصف بهذه الصفات، {فأولئك مع المؤمنين} أي: في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة {وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} لا يعلم كنهه إلا الله.

ويُلاحظ أنه سبحانه خصَّ (الاعتصام) و(الإخلاص) بالذكر، مع دخولهما في قوله: {وأصلحوا} لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما، خصوصاً في هذا المقام الحرج، الذي يمكِّن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافياً كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما، وتوقفِ الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما.

هذا، والمتدبر لآيات التوبة في مواضعها، يلحظ أنه كان يكتفي بأن يقول: {إلا الذين تابوا وأصلحوا} فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام بالله، وإخلاص الدين لله، ولكنه هنا ينص على الاعتصام بالله، وإخلاص الدين لله؛ لأنه يواجه نفوساً تذبذبت، ونافقت، وتولت غير الله، فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح، على التجرد لله، والاعتصام به وحده، وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة، وتلك الأخلاق المخلخلة، ليكون في الاعتصام بالله وحده قوة وتماسك، وفي الإخلاص لله وحده خلوص وتجرد، بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار، وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة الله وحده، المستعلين بالإيمان، المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان.

وأخبر سبحانه عن المنافقين أنهم {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} [التوبة:74] أي: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قيلهم الذي قالوه، فرجعوا عنه، يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك، خيراً لهم من النفاق، وإن يدبروا عن التوبة، فيأتوها ويصروا على كفرهم، يعذبهم عذاباً موجعاً في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذبهم في الآخرة بالنار. وفي الآية دلالة أنه لا يحصل الخير إلا عند التوبة؛ لأن التوبة أصل السعادة في الدارين.

ثالثاً: التوبة عن المعاصي: أخبر سبحانه أن العبد إذا تاب عن أمهات الكبائر: الشرك، والقتل، والزنا، وفَّقه الله للتوبة، وقبلها منه، {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} ( {الفرقان:68-71} ) أي: والذين لا يعبدون مع الله إلهاً آخر، فيشركون في عبادتهم إياه، بل يخلصون له العبادة، ويفردونه بالطاعة، ولا يقتلون النفس بسبب من الأسباب، إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها، كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، وقتل النفس بغير حق، ولا يأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج. ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة، يلقَ في الآخرة جزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه، بل سيضاعف له ربه العذاب يوم القيامة، ويجعله خالداً أبداً في النار مع المهانة والاحتقار، فيجتمع له العذاب الجسمي والعذاب الروحي.

وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار، أتبعه بترغيب الأبرار في التوبة والرجوع إلى سبيل المتقين، فيفوزون بجنات النعيم. فمن رجع عن هذه الآثام مع إيمانه وعمله الصالحات، فأولئك يمحو الله سوابق معاصيه بالتوبة، ويثبت له لواحق طاعته. ومن تاب عن المعاصي التي فعلها، وندم على ما فرط منه، وزكى نفسه بصالح الأعمال، فإنه يتوب إلى الله توبة نصوحاً، مقبولة لديه، ماحية للعقاب، محصِّلة لجزيل الثواب، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده، يهديه إلى سواء السبيل، ويوفقه للخير، ويبعده عن الضير.

وأخبر سبحانه بأنه لا يحق لمؤمن الاعتداء على أخيه المؤمن وقتله بغير حق، إلا أن يقع ذلك منه على وجه الخطأ، {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما} (النساء:92) فهذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل، توبةٌ من الله على عباده ورحمة بهم، وتكفيرٌ لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز، كما هو واقع كثيراً للقاتل خطأ.

وأخبر سبحانه أنه يقبل التوبة من الذين يرتكبون المعاصي والذنوب بجهل منهم لعاقبتها، {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم} [النساء:17] أي: ما التوبة على الله لأحد من خلقه، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، وما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم، وهم بربهم مؤمنون، ثم يراجعون طاعة الله، ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه، والاستغفار، وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم. فالله سبحانه لا يطارد عباده الضعاف، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا، وهو سبحانه غني عنهم، وما تنفعه توبتهم، ولكن تنفعهم هم أنفسهم، وتصلح حياتهم، وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه، ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.

وأخبر عز وجل أن المرابي محارب لله ورسوله، قد آذانه الله بحربه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [278-279] أي: عقاب شديد من نوع الحروب؛ فإن الإصرار على عمل الربا، إن كان من شخص يقدر الإمام عليه، قبض عليه وأجري عليه حكم الله: من التعزير والحبس، إلى أن تظهر منه التوبة. وإن كان له قوة ومَنَعَةٌ، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة.

وأخبر تعالى أنه من تاب من بعد سرقته، وأصلح في كل أعماله، فإن الله يقبل توبته، {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [38-39] أي: من رجع من هؤلاء السراق عما يكرهه الله من معصيته إياه، إلى ما يرضاه من طاعته، من بعد ظلمه، و(ظلُمْهُ) هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس، وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله، والتوبة إليه مما كان عليه من معصيته، فإن الله تعالى يُرْجِعه إلى ما يحب ويرضى، عما يكره ويسخط من معصيته؛ فإن الله عز ذكره ساتر على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبه، بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة، وتركه فضيحته بها على رؤوس الأشهاد، رحيم به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم.

رابعاً: التوبة من التقصير: المؤمن لا يمكنه القطع أنه أتى بالعبادات كما ينبغي، فخوف التقصير ملازم له طالما فيه عين تطرف، وقلب ينبض، وقد يحدث التقصير؛ إما على سبيل السهو، أو على سبيل ترك الأولى.

وهذا الخلق من شيم الكرماء، يأتون بأبلغ وجوه الكرم ويستقلونه، ويعتذرون من التقصير، وفي قمة هؤلاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. وقد ذكر الله لنا أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام طلبا التوبة، بالرغم أنهما قاما ببناء البيت بتكليف إلهي، {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة:128] عن وهيب بن الورد أنه قرأ: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة:127] ثم بكى، وقال: يا خليل الرحمن! ترفع قوائم بيت الرحمن، وأنت مشفق أن لا يتقبل منك.

وقال تعالى عن رحمته بالنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم} [التوبة:117] قال ابن عطبة: “(التوبة) من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها، وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله، وأما توبته على المهاجرين والأنصار، فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة، وجَدٍّ في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن تزيغ قلوببهم، فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا”.

وقد حكى الله تعالى لنا عن حال المؤمنين الخُلَّص في قوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} [المؤمنون:60] أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات، وقلوبهم خائفة ألا يتقبل منهم.

وفي هذه الآيات دلالة على أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة الكرام عليهم رضوان الله أجمعين، والخُلَّص من المؤمنين.

خامساً: التوبة من كتمان العلم: أخبر تعالى أن من شروط قبول توبة كاتم العلم أن يصلح ما أفسده، وأن يبين ما كتمه، {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} [البقرة:159-160] أي: إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل بيناً واضحاً، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين. وحكم هذه الآية شامل لكل من كتم علماً فرض الله بيانه للناس، ومن هنا يتبين أن الذي يرى حرمات الله تُنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهاراً بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشى الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية، إلا من أناب عن كتمانه، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأقر بنبوته، وصدَّق ما جاء به من عند الله، وأصلح حال نفسه بالتقرب إلى الله بصالح الأعمال، وبيَّن ما علم من وحي الله إلى أنبيائه، وما عهد إليهم في كتبه، فلم يكتمه، ولم يخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم، ويفيض عليهم مغفرته، تفضلاً منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه، ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته، ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا عملوا من السيئات.

وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، في التوبة عما فرَّط من الذنوب، وطَرْدٌ لليأس من رحمة الله، مهما ثقلت الذنوب، وكثرت الآثام. وفي الآية دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة، إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. وتويته أن يبين للناس أن ما كان يدعو إليه بدعة وضلالة، وأن الهدى هدى الله، ولا بكفي اعترافه وحده، أو في خلوته.

قال ابن عاشور: “فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس؛ لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة، سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر، كالقرآن والسنة الصحيحة، والعلم الذي يحصل بطريق النظر، كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيراً للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يثبت في الناس ما يوقعهم في أوهام، بأن يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعه”.

_______________________________________

* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة التفسير الموضوعي).


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *