فإنَّ خطَر الفساد والإفساد خطرٌ عظيمٌ وجسيمٌ وكبيرٌ في الدِّين، وفِي الدُّنْيَا، وفي الآخرة، له آثاره ومآلاته الوخيمة.
بِسْم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وَسَلَّم عَلى رُسُلِك وعلى آلِهِم وصَحْبهم إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فإنَّ خطَر الفساد والإفساد خطرٌ عظيمٌ وجسيمٌ وكبيرٌ في الدِّين، وفِي الدُّنْيَا، وفي الآخرة، له آثاره ومآلاته الوخيمة.
هذا والفسادُ والإفسادُ في معناه ضدُّ الصَّلاح والإصلاح، كما جاء في مواضع من القرآن – وهو المرجع والمصْدر والمورد – في مِثل قوله عزَّ وجلَّ من سُوَرة البقرة: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
وفِي المقارنة بين أهل الصلاح وأهل الفساد قولهُ تعالى مِن سُوَرة ص: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
فالمؤمنون هُم المصْلحون المتَّقون بعَملهم الصالحاتِ التي يحبُّها الله ورسوله، ويريدُها منهم، والفاسدون المفْسدون هم الفجَّار، بذنبهم في الفساد والإفساد.
• مناحي الفساد والإفساد:
هذا وبتأمُّل كلام الله القرآن؛ نجدُ للفساد والإفساد وأهلهما المفْسدين مناحيَ متعددةً، أهمُّها:
١ – الفسادُ في الدِّين، وأَشْنَعُهُ وأفظعهُ وأشدُّهُ في الشِّرك مع الله سبحانه وتعالى، في عبادته، وربوبيته، وأسمائه وصِفاته…
كما في آية البقرة في خبر الملائكة عليهم السلام: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] الآية.
وقال سبحانه في آية المؤمنون: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71].
وقول فرعون الملْحد في آية سُوَرة غافر: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]؛ فظنَّ الخبيثُ أنَّ الإيمان فسادٌ كما ظن أن ربوبيَّته عَلى المستضعفين حقٌ.
٢ – الفسادُ في الأخلاق والتعاملات بأنواع العقوق والقطيعة والسوء، في نحو قوله تعالى في سُوَرة محمد: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
ومنه فساد الطِّباع والمروءات، باللؤم والخسِّة والنذالة، وسوء الخاتمة:
يَرى الجُبناءُ أنَّ العَجْزَ عَقْلٌ ♦♦♦ وتلك خديعةُ الطَّبع اللئيم
ويجمعهُ قول المتنبي:
إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملَكتَه ♦♦♦ وإنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تمرَّدا
٣ – الفساد في الأموال كسبًا وإخراجًا ومنعًا وبذلًا، وخيانةً للأمانات…
وأجمع وصفه وتشنيعه ووصف غيره آيةُ المائدة:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33].
هذا وأشهرُ صوَر الفساد والإفساد في المال؛ بل والإدارة والسياسة: الرشوة، وهي ومن مظاهر الظلم العامِّ، وحسْبكم مِن غوائل ذلك دينًا ودنيا وآخرةً استحقاق صاحبِه لعنةَ الله ولعنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بُغض العباد ودعاءهم عليه… إلخ.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه الخمسة عن عدةٍ من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف، وابن عَمرٍو، وثوبان، وأبو هُريرة، وأم سلمة، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم، عن النَّبيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّم: «لَعَنَ اللهُ الراشيَ والمرتَشيَ». وفِي رواية للإمام أحمد: «لعَن اللهُ الراشيَ والمرتَشيَ والرائشَ».
والراشي: دافعُ الرشوة والآمرُ بها.
والمرتَشي: آخذُها ومُتعاطيها.
والرائش: الواسطةُ والسمسار بينهما. عائذًا بالله من ذلك.
٤ – الفساد الإداري، في الخيانة فيما ائتُمِنَ عليه، والمحسوبيَّات، وتتبُّع المصالح الخاصة؛ مِن حبَّ المدح والثناء، والغدر، والأحقاد النفسية، والخبث بأشكاله، وأنواع الظلم والغدر… إلخ.
وأجمع ما في التحذير منه، وبيان غوائله قوله تعالى في آيتي سُوَرة القصص في أواخرها:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
• المفسدون في القرآن:
هذا وقد ذمَّ اللهُ سبحانه في كلامه، وعاب أنواعًا من المفسدين بأعيانهم وأسمائهم، لا بل وبأوصافهم وأعمالهم الشنيعة، من أمثال:
١- فرعون وجنوده، فقد ذكره سبحانه في غير ما آية، منها ما في أول سُوَرة القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
وقوله في آية سُوَرة يونس: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91].
٢- اليهود الذين تتابعت عليهم لعائنُ اللهِ ورسلِه، حيث قال سبحانه في سُوَرة النمل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48].
وقال سبحانه في سُوَرة الأعراف: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
٣- المشركون الكافرون، في آيٍ كثيرة، منها آية العنكبوت: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30].
٤- السحَرة والساحرات، ففي سُوَرة يونس: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
٥- قوم يأجوج ومأجوج الظَّلمةُ الفجَرةُ الكفَرة، ففي آية الكهف: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94].
٦- المتكبِّرون والمتعالون عَلى أمر الله، ففي سُوَرة البقرة: {… وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].
٧- المنافقون المخادِعون الله ورسوله والمؤمنين، ففي آيات المنافقين من أول البقرة، قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].
فنعوذ بالله مِن أسباب سخطه، وموجبات عقوبته، ونعوذ به مِن الفساد والإفساد والخذلان، ونسأله رضاه ورحمته وعفوه والغفران، إنه سبحانه جواد كريم منَّان رحمن، وصلواته وسلامه على رسله وآلهم وصحبهم ومتَّبعهم بإحسان.
Source link