الأدب والعلم – طريق الإسلام

“أكبر ظاهرة في التفريق بين الأدب والعلم أن الأدب يخاطب العاطفة، والعلم يخاطب العقل..”

مرَّتْ كلمة الأدب والعلم في اللغة العربية في أدوار عدة: استعملوا كلمة الأدب أحيانًا فيما يُرقِّى الخلق ويهذِّب النفس، واستعملوها بمعنًى أوسع حتى عدُّوا أفحشَ شعر لجرير والفرزدق والأخطل أدبًا، وعدوا خمريات أبي نواس وغِلمانياته أدبًا، كما يعد الفنان بعض الصور فنًا وإن كانت صورة لوضع مستهجن أو فعل فاضح. وكذلك الشأن في كلمة العلم، كانوا أحيانًا لا يستعملونها إلا في العلم الديني، ثم توسعوا في معناها حتى شمل كل ما ينتجه العقل والفن.

 

وفي العصور الحديثة فرقوا بين الأدب والعلم ورسموا لكلٍّ دائرة، ومن ثم كانت الصحيفة أو المجلة أحيانًا أدبية، وأحيانًا علمية، وأحيانًا أدبية علمية، وأصبح من المضحك أن نقول علم الأدب لأن العلم غير الأدب، وأصبح لدينا من يسمى (أديبًا) فلا يكون عالمًا، وعالمًا فلا يكون أديبًا، وقد يكون أديبًا عالمًا ولكن كلمة (عالم) الأزهرية إنما اشتُقَّتْ من العلم بالمعنى الواسع الذي يشمل الأدب والعلم معًا.

 

وبعد: فما الفرق بين العلم والأدب، وما الذي يجعل الأدب أدبًا والعلم علمًا؟

 

الحق أنَّ كلمة الأدب والعلم من الألفاظ الغامضة التي نفهمها نوعًا من الفهم فإذا أردنا تحديدها حرنا في أمرها، كالجمال والعدل والخيال والحرية والعبودية، وإذا سألنا (حتى الخاصة) في معناها أجاب كلٌّ حسب ميوله وأغراضه، وحسب طبيعة فهمه للكلمة.

 

وهناك أشياء لا نشك في أنها علم أو أدب، فلو سئلت عن نظريات الهندسة وقانون اللوغارتمات وقوانين الحساب والطبيعة والكيمياء فذلك علم بالبداهة، وإذا سئلت عن قصائد بشار وأبي نواس والمتنبي ومقامات الحريري فذلك أدب لا علم، ولكن ما حدود الأدب وما حدود العلم؟

 

قد عودتنا الطبيعة أن الأضداد تفهم ما تباعدت، فإذا ما تقاربت حدودها صعب فهمها، ما أسهل ما تقول: إن هذا ظل وهذا شمس، ولكن عند تقارب الظل من الشمس تجد خطوطًا يصعب أن تقول أهي ظل أم شمس، وما أسهل ما تقول: إن هذا الماء حار أو بارد إذا اشتدت حرارته وبرودته، ولكن ما أصعب ذلك إذا أخذ الحار يبرد والبارد يسخن فإنك تصل لا محالة إلى درجة يعسر عليك الحكم فيها بالحرارة أو البرودة.

 

أكبر ظاهرة في التفريق بين الأدب والعلم أن الأدب يخاطب العاطفة، والعلم يخاطب العقل، فإذا قلتَ: إن زوايا المثلث تساوي قائمتين فإنك تخاطب العقل، ولا تمس العاطفة، وإذا قال المتنبي:

خُلقْتُ ألوفًا لو رَحلْتُ إلى الصِّبا *** لفارقتُ شَيْبي مُوجَعَ القلبِ باكيَا

فهو يمسُّ العاطفة أولًا، ومن أجل هذا كانت الجملة الأولى علمًا وبيتُ المتنبي أدبًا.

 

العالم يلاحظ الأشياء، يستكشف ظواهرها وقوانينها وعلاقتها بأمثالها وما يحيط بها، على حين أن الأديب لا ينظر إليها إلا من حيث أثرها في عواطفه وعواطف الناس، ينظر النباتي إلى شجرة الورد فيدرس كل جزء منها والتغيرات التي تطرأ عليها من وقت بذرها إلى وقت فنائها، ومن أية فصيلة هي، وما علاقتها بالفصائل التي تقرب منها، أما الأديب فينظر إلى أجزاء الشجرة منسقة متناسبة ويرى أنها لم تخلق إلا لزهرتها الجميلة، وأن بين الزهر وقلبه نسبًا، يعجب بحمرة لونها على خضرة أوراقها ويذهب خياله في ذلك كلَّ مذهب.

أما النباتي فيبحث لم كانت الزهرة حمراء وأوراقها خضراء. عالم الحياة لا يرى في الفتاة المحبوبة إلا إنسانًا خاضعًا لكل أبحاث البيولوجيا، أما الأديب فيرى في محبوبته شيئًا وراء كل ما يبحث عنه العالم، هي الحياة وهي الدنيا وهي النعيم إذا وصلت، والبؤس إذا صدت، أو يقول مع القائل:

وَيلاه إنْ نظرتْ وإن هي أعْرَضتْ *** وقَعَ السِّهامُ ونَزْعُهنَّ أليمُ

فالكلام إذا لم يثر عاطفةً لم يكن أدبًا فإذا هو خاطب العقل وحده كان علمًا، وإذا أمعن في إثارة العاطفة كان أمعن في الأدب …

 

وارتباط العاطفة بالأدب هو الذي منح الأدب (لا العلم) الخلود، فالنتاج الأدبي خالد أبدي لا النتاج العلمي، فقصائد أمريء القيس والنابغة وجرير والفرزدق وبشار وأبي نواس والمتنبي كلها خالدة، تقرؤها فتلتذ منها كما يلتذ منها من كان في عصرهم، فإن احتاج إلى شيءٍ فتفسير ما غمض من الألفاظ والمعاني، وهو بعد يشعر بشعورهم ويسرُّ كسرورهم.

 

ثم القطعة الأدبية لا تملُّ تقرؤها، ثم تقرؤها فتسر منها في الثانية سرورك منها في الأولى، تتعشق تلاوتها وتكرارها، وليس ذلك هو الشأن في العلم، فحقائق العلوم خالدة ولكن منتجات العلوم غير خالدة فما في كتاب أقليدس من نظريات هندسية خالدة ولكن الكتاب لا يُقرأ الآن إلا من أراد أن يرجع إلى تاريخ الهندسة، وكل كتاب في الهندسة يموت بمرور سنين عليه ولا تعود له قيمة إلا القيمة التاريخية مهما حوى من نظريات جديدة وترتيب جديد، وكذلك كتب الحساب والجبر والطبيعة والكيمياء والفلك ليست خالدة، وإن كانت الحقائق التي فيها خالدة، بل الطبعة الثانية من هذه الكتب تقضي على الطبعة الأولى بالفناء إذا دخلها تغيير، وليس طالب علم الآن يرجع إلى ما ألف من خمسين عامًا إلا إذا أراد أن يؤرخ العلم. ولكن طالب الأدب يرجع إلى ديوان المتنبي ليتذوق أدبه ويلذ مشاعره كما كان ذلك منذ ألف عام، وقد حفظت بعض قصائده ولا أزال أستمتع بترديدها، ولكن إن أنت قرأتَ كتابًا في الرياضة وفهمت ما فيه لا تستطيع في الحال أن تعيد قراءته إلا على مضض.

 

والسبب في هذا – على ما يظهر – أنَّ عواطف الإنسان لم تتقدَّم كما تقدمت عقولهم. قد ترقى العواطف شكلًا فترى أن الإحسان إلى الفقير بإعطائه درهمًا ليس خيرًا، ولكن خيرًا منه بناء مستشفى وإنشاء ملجأ ونحو ذلك، ولكن العاطفة هي هي في أساسها.

وقد ترقى عاطفة الحنو الأبوي فلا ترى مانعًا من دفع الأولاد إلى حرب الحياة وجوب الأقطار، ولكن العاطفة في أساسها واحدة.

أما العقل فوثاب دائمًا راق أبدًا، في الشكل وفي الأساس يرى حلالًا اليوم ما كان حرامًا بالأمس ويرى حقًا الآن ما كان باطلًا من قبل ويخترع كل يوم جديدًا ويصوغ حياته وفق الجديد. ومن أجل ذلك لا يلذ له أن يقرأ عقل السابقين إلا كما يقرأ تاريخهم ولكن عواطفه هي هي ركزت وثبتت فتلذذ اليوم بما يمثل عواطف الأقدمين وإن كرَّت عليها الدهور وتوالت العصور.

 

وليس الأمر بهذا القدر من السهولة في الفصل بين الأدب والعلم، فهناك أنواع يصعب الفصل فيها حتى على الخاصة أأدب هي أم علم؟ هناك أدب (معلم) وهناك علم (مؤدب)، هناك تاريخ صيغ صياغة أدبية، فلا يكتفي بسرد الحقائق وتعيين سبب وقوعها، وإنما يضع ذلك في قالب يثير شعورك للاحتذاء والقدوة أو للحب أو الكراهة. وهناك فلسفة صيغت في قالب قصة، وهناك طبيعة وكيمياء صاغتها يدُ صَنَّاعٍ ماهرة في الفن تحمل قلم أديب فأخرجت منها موضوعات شيقة تثير عاطفة الجمال وتستخرج الإعجاب بما في هذا العالم من إبداع وفن.

 

هذه الموضوعات وأمثالها ليست أدبًا خالصًا ولا علمًا خالصًا وإنما هي علم أدبي أو أدب علمي، هي أدبٌ بمقدار ما تثير من عاطفة، وهي علم بمقدار ما فيها من حقائق.

 

العلم لغة العقل، والأدب لغة العاطفة، ولكن لابد في هذه الحياة أن يلطف العلم بالأدب، والأدب بالعلم، فالعقل إذا جمح استخف بالشعور وجعل الحياة ثمنًا للعلم، وهو إذا مُزج بشيء من الأدب مس الحياة ورفّه على الناس، والعاطفة إذا شردت كانت ثورانًا وهياجًا. ألا ترى التعجب يزيد فيكون نباحًا، والعشق يهيم فيكون جنونًا؟!

 

مجلة الرسالة، العدد 3، بتاريخ: 15 – 02 – 1933 م

 


[1] الكاتب: الأستاذ أحمد أمين، من كبار الكتَّاب في عصره، عالم بالأدب، واسع الاطلاع، منحته جامعة القاهرة لقب (دكتور) فخري سنة 1948، وهو: أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ، اشتهر باسمه (أحمد أمين) وضاعت نسبته إلى (الطباخ)، ولد بالقاهرة سنة 1295هـ = 1878م، وعاش فيها وتوفي بها سنة 1373هـ = 1954م.

أُخذ عليه تأثره إلى درجة كبيرة ببحوث المستشرقين وكتاباتهم عمومًا، وما يتعلق منها بالموقف من الحديث النبوي والموقف من الصحابة خصوصًا. نشرنا له هذه المقالات لتميزها من الناحية الأدبية والتاريخية، ولكونها مقالات قديمة نرغب في إظهارها على شبكة الإنترنت، فلزم التنبيه على مذهبه ليكون المسلم على حذر من ذلك.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *