منذ حوالي ساعة
لَم تظهر عظمة الإسلام كاملة في وهاد مكَّة، وهو بَعْدُ مبادئُ ومعتقداتٌ وآداب نظريَّة تَكْمُن في قلوب المؤمنين المختَبِئين في دار الأرقم، لكنَّ عظمته الحقَّة بدَتْ جليَّة في المدينة المنوَّرة حين سنَحَت لَها فرصة التفاعل…
لَم تظهر عظمة الإسلام كاملة في وهاد مكَّة، وهو بَعْدُ مبادئُ ومعتقداتٌ وآداب نظريَّة تَكْمُن في قلوب المؤمنين المختَبِئين في دار الأرقم، لكنَّ عظمته الحقَّة بدَتْ جليَّة في المدينة المنوَّرة حين سنَحَت لَها فرصة التفاعل مع طبيعة البشر، سواء المؤمنين بِها أو غير المؤمنين، وانسابَتْ بالفُتوحات على العالَم شرقًا وغربًا، وتفاعلت مع أهل الحضارات السَّائدة آنذاك في الفُرْس والرُّوم، بعدما دخل كثيرٌ منهم في الإسلام، وآمنوا برسوله، وتوهَّجَت رغم انقطاع الوحي ووفاة كثيرٍ من الصحابة – رضوان الله عليهم – وبروز أجيال تالية من التابعين والمؤمنين في دمشق وبغداد، مرتكزة على المعتقدات والمبادئ التي وقَرَت في النُّفوس منذ أيام مكة.
مكة وترسيخ القيم:
أن تؤمن بِما يغاير معتقدات قومك وهم يُحيطون بك من كلِّ جهة، وتتمسَّك بعقيدتك رغم الإغراءات والتنكيل، ثم تُواصل التقدُّم حتَّى يتسلَّل الإيمان إلى صفوف الملأ من قريش، فيتَّبِع الدينَ الجديدَ حمزةُ بن عبدالمطلب وعمرُ بن الخطاب، وتنتقل من السرِّ للعلانية، وترسخ في نفوس المؤمنين الشُّعورَ بالسُّموِّ والرِّفعة، وتنبت ثقتهم في تحقيق كلِّ ما ذكره النبِيُّ الكريم من نبوءات، ويشير إليهم صناديد مكَّة على أنَّهم الملوك، ثم تتحقَّق – بعد سلسلة دامية من الأحداث والحروب – دولة الإسلام، يَحْكُمها ويتحكَّم في حركتها وحْيُ السَّماء، فهي مرحلة ترسيخ الأساس التي عليها سينبَنِي مَجْد الإسلام.
بين الفكرة والدولة:
وكل فكرة تنبت أوَّلاً في العقول، وترتَسِم ملامِحُها في الكتب، ثم يُحاول المؤمنون بها تطبيقَها، حتى تتجسَّد الفكرة في صورة أنماط حكمٍ وتشريعات وسياسات، وتتباين بعد ذلك التطبيقات باختلاف الرُّؤَى، ومثلما يقول أهل العلوم السياسية: “قِيَم، ثم نُظُم، ثم مُمارسات”، مثلاً الفكرة الشيوعيَّة عاشت زَمنًا في كتابات ماركس وإنجلز، ثم تَجسَّدَت في دولة، ثم تتابَعَت التطبيقات لنفس الفكرة بِرُؤًى متباينة، حتَّى صارت معسكرًا من الدول، ومثل الصِّهْيَونية التي عاشت حلمًا في عقول بعض اليهود، ثُمَّ تَحقَّقَت بعد نصف قرن وتَجسَّدت في دولة، لكن الفكرة الإسلامية رغم تاريخها الضارب في النَّجاح في أعماق التاريخ، حُرِمَت اليوم من فرصتها من مُناطحة هذه الأفكار الأرضية المحدودة في فهمٍ فِكْري أو عنصري.
سوء فهم أم مؤامرة:
والأدهى من الإقصاء المُجْحف أن تُصاغ المُبَرِّرات لِنَبذ الإسلام وتَهْميشه، باعتبار أنَّ الإسلام فكرة تاريخيَّة مضَتْ وانقضى زمانُها، مثلما مضت دولة الفراعنة والفرس والرُّومان، وكأنَّه لم يَعُد لِدُعاة الإسلام حقٌّ في طلب الفرصة مرَّة أخرى؛ لأنَّهم كما يقول أحد العلمانيِّين: “يرتكبون خطأً فادحًا حين يركِّزون جهودهم على الإسلام كما ورد في الكتاب والسُّنة، ويتجاهلون الإسلام كما تجسَّد في التاريخ”[1]، وظلَّ تاريخ الأمَّة الإسلامية دُرَّة على جبين الدَّهر، لا يُدانيه تاريخُ أمَّة من الأمم في قديم الزمان أو حديثه، وإن وقعت فيه رغم ذلك بعض الحوادث التي تلقي بظلالٍ قاتِمةٍ على إشراقه، مثل: وقعة صفِّين، ووقعة الجمَل، ويوم الحَرَّة، وأمثالها، وتعلمنا رغم ذلك كيف يختلف أهل التُّقى.
ولكن العلمانيِّين وأعداءَ الإسلام لما عجزوا عن هَدْم الإسلام بالنَّيْل من القرآن والسُّنة كمصدَرَيْن للمنهج الإسلامي، حاولوا الوصول إلى هدفهم بتصوير الإسلام ببعض الصُّوَر التاريخيَّة المنتقاة لِهَذا الْهَدف، زاعِمِين أنَّه ما دام في التاريخ الإسلامي أمثالُ الحجاجِ بن يوسف، فلا وجه للاعتراض على طُغاة العصر، وما دامت الفتنة الكبرى قد حدثت أيام الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة، فلا ينبغي معاودةُ البحث عن أنْماط حكمٍ كهذه، ولا نَحْتاج إلى من يخْفق الناس بدِرَّته في الأسواق[2]! كما كان يفعل الفاروق – رضي الله عنه.
هاؤم اقرؤوا كتابيه:
هؤلاء المحاربون لعودة الإسلام بِحاكميَّته – سواء جَهِلوه، أو علموا وحقدوا – لم يتفكَّروا في أخلاقيَّات وقِيَم المجتمع الإسلامي في التعامل مع ظاهرة الحاكم المتجبِّر، مثلما كان الحجَّاج، بل لم يُدْرِكوا الفارق بين الحجاج من ناحية، وطُغاة هذا الزمان من ناحيةٍ أخرى، فحوارات الحجَّاج مع كثيرٍ من علماء المسلمين وعوامِّهم، تبيِّن مدى ترسُّخ الفهم السَّليم لأبناء الأُمَّة – حتَّى وإن كانوا أطفالاً – وكم من حوار تناقلَتْه الكتب بَيْن الحَجَّاج وبين الناس، صبيانًا ونساءً وعلماء، ولم يتعلَّموا آدابَ ومُثُلَ الخلاف في الرأي الذي يَبْلغ مبلغ الفتنة.
كذلك الخلاف الذي نشَبَ بين عليِّ بن أبي طالب ومعاوية والزُّبير بن العوام وطلحة بن عُبيدالله – رضي الله عنهم أجمعين – ولَم يُلاحظوا آداب الخلاف، وإن وصَل للتَّقاتُل، ولا منطلقات تَجْميع الأُمَّة، ومباحثات فريق أُمِّ المؤمنين بين جبهة عليِّ بن أبي طالب وجبهة معاوية – رضي الله عن الجميع – الَّتِي تفتقر إليها مباحثاتُ هذه الأيَّام بين الدُّول، فقد روَتْ كتُب السِّيَر أنَّ عائشة وطلحة والزُّبيْر بعد أن بايعوا عليًّا، قصدوا البَصْرة مُطالبين سِلميًّا بِمُعاقبة قتَلَةِ عثمان، فدعاهم الإمام عليُّ بن أبي طالب للتريُّث حتَّى تَهْدأ الأمور، فيتسنَّى له القبض على القتَلَة، وتنفيذ حُكم الله فيهم، فالأمر يَحتاج إلى الصَّبْر، فاقتنعوا بفكرة عليٍّ التي جاءَهم بِها القعقاعُ بن عمرو التَّميميُّ، فاتَّفَقوا على المُضِيِّ على أمْر أمير المؤمنين علي، وباتوا بِأَهنأِ ليلة.
لكنَّ رؤوس الفتنة رأَوا أنَّ اصطلاح الفريقين ليس من صالحهم، فقرَّروا إشعال الحرب بين الفريقَيْن، وقبل دخول الفجر أمَروا بعض زبانيَتِهم بدخول معسكر الإمام علي، وقَتْل بعض الجنود هناك، والبعض الآخر يدخل معسكرَ طلحة والزُّبير، ويقتل بعض الجنود هناك، فيظن كلا الفريقَيْن أنَّ الآخر قد غدر بِه، وهكذا وقعَتْ موقعةُ الجمل التي ما أراد أحَدُ طرفَيْها إلاَّ الصُّلح بين فئتَيْن من المسلمين تقاتَلتا.
وحَسْبُنا أن نذكر حِماية عليِّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – لِجَمل أُمِّ المؤمنين حين دارت رَحَى المعركة وهو يقول: “يا عباد الله، كُفُّوا، يا عباد الله، كُفوا”.
وتتابعَتْ أحداث معركةٍ لَم تكن بِحُسبان الصَّحابة أنَّها ستقع، لكنها وقعت، وما كان لعليٍّ أن يصدِّق لولا قول النبِيِّ له ذات يوم: «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمْر»، قال عليٌّ متعجِّبًا ومصدِّقًا: “أنا يا رسول الله؟!”، فقال النبيُّ: «نعم»، قال عليٌّ: “أنا أشقاهم يا رسول الله”، فقال: «لا، ولكن إذا كان ذلك فارْدُدْها إلى مأمَنِها».
فأمَر أحد قادة جنده، وهو أخوها محمَّد بن أبي بكر الصدِّيق بتفقُّد حالِها؛ أن يكون أصابَها مكروه، فرآها بِخَير، وسُرَّت هي برؤيته حيًّا، ثم أتاها أميرُ المؤمنين عليٌّ، وقال لَها: “كيف أنتِ يا أُمَّه؟”، فقالت بِقَلب الأُمِّ: “بخيرٍ، يغفر الله لك”، فقال: “ولكِ”.
وعند رحيلها من البصرة جهَّزَها بكل ما تحتاج إليه من متاع وزاد في طريقها إلى المدينة المنورة، وأرسل معها أربعين امْرأة من نِساء البصرة، وسيَّر معها ذلك اليومَ أبناءَه الحسنَ والحُسَين وابنَ الحنفيَّة، وأخاها محمَّد بن أبي بكر الصدِّيق، فلمَّا كانت السَّاعة الَّتِي ارتَحلَتْ فيها جاء أميرُ المؤمنين علي، فوقف على باب دار بني خلف – حيث أقامَتْ أمُّ المؤمنين – وحضر الناسُ، وخرجَتْ فودَّعَت الناس ودعَتْ لَهم، وقالت: “يا بَنِيَّ، لا يَعْتِب بعضُنا على بعض، إنَّه والله ما كان بيني وبين عليٍّ في القِدَم إلاَّ ما يكون بين المرأة وأَحْمائها، وإنَّه على معتبَتِي لَمِن الأخيار”، فقال أمير المؤمنين علي: “صدَقَتْ والله ما كان بيني وبينها إلاَّ ذاك، وإنَّها لزَوْجة نبيِّكم – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الدُّنيا والآخِرَة”.
هكذا كان الخلاف في واقع وتاريخ حياة سلَفِنا الصَّالح، فأين هذا مِمَّا حفلت به كتب التَّاريخ الحديث عن تسَلُّل العلمانيَّة لبلادنا، والانقلابات التي تنضح غدْرًا وخِسَّة.
لكنَّهم دائمًا لا ينقلون عن التاريخ الإسلامي إلاَّ الفِتَن والْحُروب الدَّاخلية، وإذا ذكروا المبادِئَ والقِيَم التي أرساها الدِّينُ الإسلامي بين أتباعه، قالوا في تبجُّحٍ: إنَّ هذا هو الْجِيل الأول الذي ربَّاه النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهيهات أن يتكرَّر بعدما انتهى الهَدْي النبوي! وليس في التاريخ بعْدَهم مَن يُضارِعُهم.
ولكنَّ التاريخ الإسلامي العريض يَدْحض مُفترياتِهم، ويُكذِّبُها، فما كان يشهد به الناس للفاروق تكرَّر بعد عقود في حفيده عمر بن عبدالعزيز، وبعدَهُما بقرون في يوسف بن تاشفين، ومحمَّد الفاتح، رغم الفروق بين كلٍّ منهم، لكنهم جميعًا يُثبتون أنَّ القِيَم والأنظمة التي يُقرِّرها الإسلام قادرةٌ على خَلْق الحاكم المسلم الصَّالِح في كُلِّ زمان ومكان؛ إذْ ليس هذا النَّمَط الحاكم من إشراقات النُّبوَّة والخلافة الرَّاشدة فحَسْب، بل تكرَّر في الأُمَّة على فترات متباعدة، وفي أماكن متفرِّقة؛ لأنَّها مستمدَّة من منهج مَحْفوظ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد استفاضت عليه الشُّروح والتفاسير، فلا يزال الحكام ينهلون منه كلَّما أرادوا بأنفسهم وبأُمَّتِهم رشدًا، فعرفت الأُمَّة عمرَ بن عبدالعزيز، وصلاحَ الدِّين الأيُّوبي، وسيف الدين قُطز، ويوسُفَ بن تاشفين، وأَلْب أرسلان، وعثمان بن أرطغرل، ومحمَّدًا الفاتح، وغيرُهم كثيرون، ومن فَضْل الله علينا أنْ جعل الدِّين مَحفوظًا بِمَصدرَيْه؛ الكتاب والسُّنة، وبشَّرَنا النبِيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بأنَّ الخير فيه وفي أمته إلى يوم القيامة.
[1] فؤاد زكريا. [2] قالها فرج فودة في كتابه قبل السقوط.
_________________________________________________________
Source link