كثيرٍ من مجتمعات المُسلمين اليومَ أمام غربةٍ للإسلام كغُربته القديمة في مكَّة، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «بدَأ الإسلامُ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطُوبى للغرباء»
ليس لزامًا على الدَّعوة الإسلامية أن تُساير مجتمعًا قد انحلَّت رِبقتُه عن شرع الله تعالى، فتضع له حلولاً مطابقة لواقعه، أو أحكامًا يحصِّل بها مصالِحَه كاملةً، فإنَّ هذا الدِّين جاء ليُعْمَل به وفق منهجه الموضوعِ للعباد، وفي البلاد، لا ليرقّع بين الدِّين والواقع، أو يجمع من شتاتهما المتناثر.
وكلُّ مسلمٍ حريصٍ على صبغ حياته بدِينه في مجتمعاتنا اليوم، تُقابله عراقيلُ من الواقع المعاصر، المختلط فيه المنهجُ الديني الإسلاميُّ بغيره من العادات أو قوانين السير الجماعيَّة في المجتمع، والمخالِفة لشرع الله تعالى.
فتقف تلك العراقيل حائلةً عن إتمام مَصالح العباد كما أراد لهم الإسلام، وتَعمل الدَّعوة الإسلاميَّة في هذا الواقع على التَّوفيق لاستخلاص قدرٍ من المصالح، ودَفْع آخرَ من المفاسد، دون أن تمتلك من رصيد التَّمكين ما يؤهِّلُها لقيادة الواقع.
فنحن إذًا في كثيرٍ من مجتمعات المُسلمين اليومَ أمام غربةٍ للإسلام كغُربته القديمة في مكَّة، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «بدَأ الإسلامُ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطُوبى للغرباء» [1].
غير أنَّ غربة الإسلام الأُولى كان الدِّين فيها في مرحلة التَّكوين والإرساء، فكانت أحكامُه موافقةً لمرحلته، حتَّى إذا مُكِّن له في المدينة، تبدَّلَت مرحلةُ الغُربة إلى مرحلة التَّمكين، ومرحلة التكوين إلى مرحلة الإتمام والكمال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ومن كمال الشَّريعة الإسلامية أنَّ قواعدها وأصولها تَتوافق مع كلِّ تلك المراحل، رغم تغيُّرِ المُجتمَعات التي تعمل فيها، إلاَّ أن أمر صلاحيتها لكلِّ زمان ومكان لا يَعني أنَّ ثمرة ما يجنيه المسلم في المجتمع المبنيِّ وفْقَها تستوي مع المجتمع الذي بُني على المخالفة والشِّقاق.
ومن هنا يَثْقل التزامُ أحكام الله تعالى على كثيرٍ من المسلمين في مجتمعاتنا؛ لكثرة دوافع المُخالفة، وضعف مَوانعِها أو فِقدانها جملةً، ولهذا كان للتمسُّك بالإسلام وشرائعه في أزمنة الغُربة أجرٌ يفوق غيره في زمن التَّمكين للدين؛ يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ من ورائكم زمانَ صبر، للمتمسِّك فيه أجرُ خمسين شهيدًا منكم» [2].
فللمتمسِّك أجْرُ خمسين شهيدًا من الصحابة – رضي الله عنهم – لأنَّ دينه قائمٌ بصبره على المعوِّقات المختلفة.
والدُّعاة إلى الله تعالى – بكلِّ أطيافهم – مُطالَبون بالتغيير؛ تغيير وضع مجتمعاتهم حتَّى تعود إلى الجادَّة التي أرادها لهم ربُّهم – تبارك وتعالى – هذا هو رأس عملهم في الواقع، والذي يَنبني عليه تفتيتُ كلِّ إشكال يُواجِه الدعوة اليوم.
كما أنَّهم مُطالَبون بتبيين أحكام الله تعالى، وردِّ الخلق إليها، وإن وافق التزامَ هذه الأحكام بعضُ العسر والمشقَّة، فليس هذا العسرُ أو هذه المشقة نتاجَ التزام أحكام الله تعالى، وإنَّما نتاج بُعدِ تلك المجتمعات في جملتها عن شرع الله – عزَّ وجلَّ.
أمثلة من الواقع: تتجلَّى مشقَّة التزام بعض أحكام الشرع الحكيم في القضايا والأحكام المتعلِّقة بالمجتمع، والمشتركة مع الغَيْر، فعلى سبيل المثال: عندما يُلزَم الموظَّف في المؤسَّسات العامَّة التابعة للحكومات، أو الخاصَّة التابعة لآحاد المستثمِرين، بخصم جزءٍ من راتبه الشهريِّ تحت ما يُسمَّى بـ “التَّأمين الوظيفي”، أو “التأمين المعاشي”، ثُم تُدفع أموال هؤلاء الموظفين – في كثيرٍ من البلاد المسلمة كمصر – إلى بنوك لتُستثمَر في القروض الرِّبوية، أو المشاريع المجهولة، والتي عادةً ما تكون محرَّمة، وإذا بلغ الموظَّفُ سِنَّ التقاعد، صُرف له راتبٌ شهري.
ثم يَستفسر هؤلاء المتقاعدون عن حكم أخذ هذا المعاش، وبغضِّ النظر عن تحقيق القضيَّة فقهيًّا، وعن مناقشتها واقعيًّا، والْتِماس البدائل الصحيحة، أو تقنينها بحيث تُجنَّب مخالفاتها للتشريع، بغضِّ النظر عن كل هذا: يفتي جماعة من العلماء – والحال على ما وصَفْتُ – بعدم جواز ما زاد من المال عمَّا دفعه الموظف مما يخصم من راتبه، وترك ما سواه من الزيادة.
فيجد بعضُ هؤلاء الموظفين بعض الحرج الحياتيِّ من ترك هذا الراتب الشهري بعد التقاعد؛ لأنَّه قد بنَى عليه تدابير حياته المالية، وربما كان سبب قبوله بالوظيفة أولاً، إلاَّ أن أزمة هؤلاء مع القوانين التي بُنِيت على أصولٍ وأسس مخالفة لشرع الله تعالى، وليست مع الدَّعوة التي أرادت ردَّهم إلى أحكام الله تعالى.
وهناك أمثلة كثيرة في واقعنا مشابهة لهذا المثال.
فهي أزمة مجتمع إذًا، وليست أزمة دعوة، أزمة مجتمع جنَحَ عن منهج الله تعالى المتضمِّن لمصالح العباد في الدُّنيا والآخرة، إلى مناهج العباد المتضمِّنة للمفاسد والمَظالِم، المبنيَّة على الهوى والجهل والنَّقص.
وليس في حَمْل الناس على دينهم في واقعنا المعاصر كذلك مشقَّة تَعْدِل مشقَّة الانفلات، وزيادة البُعد عن شرع الله – عزَّ وجلَّ – فرغم ظاهر ما يجد المرء من العسر أو المشقَّة في تطبيق أحكام الله تعالى في مجتمَعٍ لا يسير وفْقَها، فإنَّ عسر المخالفة ومشقَّتها أكبر وأعظم، وإنما يقف على هذا مَن تدبَّر مآلات المُوافقة والمخالفة.
وإذا فَهم المُبلِّغ عن الله تعالى أنَّ بعض ما يُعانيه المسلمُ من مشقَّة في التزام أحكام الله المتعلقة بما حوله في مجتمعه المخالف للشرع، إنَّما هي من شؤم بُعْد تلك المجتمعات عن دين الله تعالى، استقام عمَلُه أوَّلاً على ردِّ المجتمع لدينه، كما لم يطلب رضا الناس بتفريغ تلك الأحكام الشرعية عن حقيقتها، فيما يُسمَّى بفقه “التَّيسير”، أو “التلفيق”.
ولا يَعني هذا أن يغفل الدُّعاة إلى الله تعالى نوافذَ الإصلاح المتاحة، بحيث يُقَوِّمون من واقع مجتمعاتهم ما يمكنهم، كما جاء في إحدى روايات حديث الغرباء: ((الذين يصلحون إذا فسد الناس)).
لكن هذا الإصلاح لا ينبغي أن يطيح فيه الواقع بالدَّعوة، فيطوِّعها له؛ لِيَتوافقا، ويتركها أسماء دون مسمَّيات، أو هيكلاً بلا محتوى.
[1] أخرجه مسلمٌ وغيره من حديث أبي هريرة، وابن عمر.
[2] الطبراني من حديث عبدالله بن مسعود، وصحَّحه الألباني في “صحيح الجامع”.
_________________________________________
الكاتب: حسن عبدالحي
Source link