أصبحنا نقرأ أرقامًا مخيفةً عن عزوف الشباب عن الزواج، وارتفاع نسبة العنوسة في المجتمع
الزواج هو اللبِنة الأولى لتكوين الأسرة، وإنجاب الذرية، ولا أسرة بدون زواج، كما أنه سبب لتحقيق العِفَّة وصِمامُ أمانٍ ضد انتشار الفواحش في المجتمع، وما فَتِئَ أعداءُ الطُّهر والعَفاف، وأعداء الفطرة والملة والدين، من الذين يحبُّون شيوع الفواحش في الذين آمنوا – ما فَتِئُوا ينشرون عبر وسائلهم المختلفة قِيَمَ الرذيلة والفساد، ويحاربون ويخلقون العراقيل أمام قيم الطهر والعفاف؛ ومنها الزواج، وأصبحنا نقرأ أرقامًا مخيفةً عن عزوف الشباب عن الزواج، وارتفاع نسبة العنوسة في المجتمع، وخطبتنا اليوم في تشخيص هذه الظاهرة، والوقوف على بعض أسبابها؛ سعيًا لتجاوزها، والرجوع إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
عباد الله: من أسباب العزوف عن الزواج نذكر ما يلي:
1- عادات وأعراف فاسدة: لا علاقة لها بالدين والشرع، بل تُضادُّ مقصودَه وغايته، تُكبِّل وتخلُق العراقيل أمام كل ساعٍ للزواج؛ ومنها:
♦ ارتفاع الصَّداق في بعض المناطق: وافتخار النساء بمن تكون أعلى صداقًا، ونقول للبنت ووليها: كيف ترضى أن تردَّ خطيبًا صالحًا لمجرد أنه لم يقدِّم صَداقًا يرضيكم؟ والله إنها لخيبة الدهر؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ألَا لا تَغْلُوا صُدُقَ النساء، فإنه لو كان مكرُمةً في الدنيا، أو تقوى عند الله عز وجل، كان أولاكم به النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصْدَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أُصْدِقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقيةً”[1].
♦ ارتفاع تكلفة الولائم والإسراف فيها: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن بن عوف: «أَوْلِمْ ولو بشاة»[2]؛ مما يدل على أن المطلوب البساطة.
♦ منع التزويج لأسباب قَبَلِيَّة وعِرْقِيَّة: هناك من يرفض الخطيب لأنه من قبيلة فلانية، ونحن لا نتزوج من تلك القبيلة، أو من تلك الأسرة، أو من ذاك العِرق، وغيرها من الاعتبارات الجاهلية، التي يجب على أمة “اقرأ” أن تتنزه عنها؛ وقد نزل في قرآنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
♦إعطاء الكماليات صفة الضروريات: ومنها جعل الهدايا، وجهاز العروس، وتكاليف الوليمة، وغيرها من المتممات هي الأصل، والواجب لزوم منهج الوسط والاعتدال في كل شيء، والتركيز على صلاح الزوج، وصلاح الزوجة، والتيسير للجمع بينهما دون معوقات؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا خُطِبَ إليكم من ترضَون دينه وخُلُقَه، فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكُنْ فتنة في الأرض، وفساد عريض»[3].
2- طول مدة الدراسة ورفع سن الزواج: من التغيرات التي عرَفها واقعنا رغبةُ الفتى أو الفتاة في استكمال الدراسة، والحصول على الشهادات، واعتبار الزواج حائلًا دون تحقيق هذه الغايات، مع ما صاحَبَ ذلك من رفع السن القانونية للزواج، وهذا وإن كان صالحًا لدى فئات، فإنه تعسُّفٌ وضرر يلحق بفئات أخرى، وفي أوساط وبيئات أخرى، ومَن هذا الذي يرضى انتشار الزنا في صفوف طلبة الدراسة أو انتشار نكاح المتعة بينهم؟ فانتشارها دليلٌ إلى حاجتهم إلى الزواج والاستعفاف، وهذا الذي يشجِّع ويَرضَى بالرذيلة في أوساط الشباب قبل السن القانونية للزواج، ويشجع ثقافة العازل الطبي، ويتباكى على زواجهم الشرعي قبل الزواج – لا تهمه مصلحتهم، بقدر ما يهمه إفساد المجتمع ونشر الفواحش فيه؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
3- البطالة والتقليل من أهمية الزواج: بعد إتمام الدراسة تبرز مشاكل أخرى ومنها: البطالة، ومسيرة البحث عن العمل المناسب، فيُرفَض طلب الخطيب لأنه فقير، أو لأن وظيفته بسيطة، متناسين أن الزواج طريق للرزق والغِنى؛ قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، وإذا عمِلت الفتاة أوحى لها شياطين الإنس بأن الزواج غير مهم في حياتها، ما دامت تملك مالًا ووظيفةً، فاللهم يسِّر الزواج على المسلمين والمسلمات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فمن الحقوق المشتركة بين الزوجين أيضًا:
4- الانطباع السلبي عن الزواج: البعض له أسباب نفسية تمنعه من الزواج بناءً على تجارب سابقة مؤلمة، أثَّرت فيه أثرًا كبيرًا، مما يجعله ينطوي وينغلق على نفسه، أو من خلال إسقاط التجارب الفاشلة للزواج على نفسه، رآها أو أُخْبِرَ عنها، وقد يراها من أبيه وأمه، ونحن نذكِّر هذا الصنف بقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، توكَّل على ربك، وكن قويًّا ذا عزيمة، فأنت شخص آخر، فما فشل فيه غيرك فقد تنجح فيه أنت، والمشاكل تواجَهُ بالحزم والعزم، والحكمة والرفق، ومع ذا لا ينفع حذر من قَدَرٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القويُّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعك، واستعِنْ بالله ولا تعجِزْ، وإن أصابك شيء، فلا تَقُلْ: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَّر الله وما شاء فَعَل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان»[4].
5- الاستغناء بالحرام عن الحلال: هناك صنف آخر – للأسف الشديد – يقول لك: النساء كثير، بدون مسؤولية ولا تبعات، فلماذا أتحمل عبء الزواج والإنفاق؟! فهذا لا دين له، يعيث في الأرض فسادًا، ويلبس للرذيلة ألف لباس، استبدل بالأعلى الأدنى، وكل يوم يبحث عن سعادة موهومة، ونزوة عابرة، وشهوة أثيمة محرمة، فأصبح عبدًا للشهوات، يعيش كل يوم مع الْمُومِسات، فيخسر الطمأنينة والسَّكَينة في الدنيا، وله في الآخرة عذاب أليم، إن لم تتداركه رحمة الله بالتوبة والاستقامة؛ ألم يقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، وله في نداء النبي صلى الله عليه وسلم للشباب بلسمٌ وشفاء؛ الذي قال: «يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر وأحْصَنُ للفَرْجِ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء»[5].
فاللهم أغْنِنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، آمين.
[1] رواه النسائي، رقم: 5450.
[2] رواه البخاري، رقم: 2048.
[3] رواه الترمذي، رقم: 1084.
[4] رواه مسلم، رقم: 2664.
[5] رواه البخاري، رقم:5066.
Source link