القارئ للحصين يدرك بصورةٍ واضحةٍ إضاءاته الفقهية والفكرية والثقافية، وسعة اطلاعه على الواقع، وبالتالي كان من عمله العلمي محاولات التجديد ببعض المسائل الفقهية، والتحديث في قضايا فكرية وفقهية تهمّ أمّة الإسلام في عصرها الحاضر، وكل هذا فيما يسع الاجتهاد فيه.
وللتدليل على إدراكه لهذا الواقع وسعة اطلاعه العلمي فكريًّا وفقهيًّا؛ فإن كتاباته -على سبيل المثال- واضحة عن التطورات العلمية والصناعية عبر التاريخ، وأثرها في تطور الحياة البشرية ومتغيراتها، والمهم هنا ما لديه من نتائج هذا التطور؛ حيث ضرورة تجديد صياغة كثير من الأحكام الفقهية والاجتهاد في مسائلها؛ لتلافي الفجوات الواسعة بين النصوص الفقهية لمن سلف، وبين التحديات الفقهية المعاصرة، ومن ذلك قوله: «التغيُّر الذي جاء به العصر الحديث -لا سيما بعد اكتشاف قوة البخار، وطاقة المواد الأُحفُورية، والكهرباء- كان تغيُّرًا جذريًّا في حياة الناس، وليس تغييرًا هامشيًّا، ولم يكن التغييرُ قاصرًا على الكمّ، بل على الكيف.
لم يَعُدْ ممكنًا تطبيق كثيرٍ من نصوص الكتب الفقهية في كثير من مجالات الحياة! على سبيل المثال: هل يمكن الآن تطبيق النص الفقهي القائل بأنه «لا يجوز السَّلَم في الأشرِبة والأدِقّة والمعاجِين» على منتجات الصناعة المعاصرة من الأشربة والأدقة والمعاجين؟! إن هذه المنتجات في الصناعة الحديثة تَنْضبِط بالصفة أكثر مما كان أسلافنا الفقهاء يتخيّلون في منتجات صناعة زمانهم»[1].
ويضرب الحصين مثالًا يُوضِّح فيه أهمية الاجتهاد الفقهي في كثير من مسائل الفقه؛ حيث التطور الكبير المعاصر في مستوى الإنتاج الزراعي والصناعي ووسائلهما الحديثة، وعن هذا قال: «بعد أن كانت الورشةُ الكبيرة في الماضي تُنتج في اليوم مائة وحدة، أصبح المصنع الحديث يُنتج يوميًّا مليون وحدة، وبعد أن كان أكبرُ ربِّ عملٍ لديه مائة أجير خاص، أصبح ربُّ العمل يعمل لديه عشراتُ الألوف من الأُجراء، وبعد أن كانت أكبرَ صفقةِ بيعٍ حمولة مائة بعير، أصبحت هذه الحمولة طاقة الحمل لسيارةٍ واحدة!
هل لا زالت صورة قبض المبيع في النصوص الفقهية قابلةً للتطبيق في عملية شراء حمولة ناقلة نفطٍ عملاقة؟! لقد تغيَّرت حقيقة التنقل والتواصل بصورة مذهلة بوجود أنظمة المواصلات والاتصال المعاصرة.
كان من الطبيعي أن تُوجد الفجوة الواسعة في مجال التطبيق العملي بين نصوص أسلافنا الفقهاء والمشكلات الفقهية المعاصرة»[2].
ويُنبّه الحصين على إشكالية وآثار الجمود الفقهي، وعدم الاجتهاد بتشخيص هذا الواقع وفقه مسائله المعاصرة، قائلًا: «ولسدِّ هذه الفجوة فإن العالم الإسلامي عَمَد إلى استيراد الحلول الفقهية للنوازل من الأنظمة الفقهية في البلدان خَارِجه، وجاءت هذه الحلول في صورة قواعد قانونية، وأنظمةٍ قضائية، كان مما شمله التغيير في حياة الناس مجال العقود والمعاملات»[3].
ولأن الاقتصاد وفقهه يشغلان الساحات الإسلامية والعالمية؛ فقد كتب الحصين عن أزمات الاقتصاد وحلولها من وجهة نظر فقهية شرعية، وفيها شيءٌ كبير من إضاءات التجديد والاجتهاد، وكان له دور علمي فقهي بارز مع كل المهتمين بالمصرفية والبنوك الإسلامية، مثل الأستاذ صالح كامل -رحمه الله-، بل ومع العلماء والفقهاء مثل تقديمه لكتاب الشيخ عبدالله المنيع المعنيّ بالقضايا الفقهية الاقتصادية حول التورّق النقدي، وما في هذا التقديم من الوعي الفقهي للمسائل الفقهية الشرعية المعاصرة، لدرجة التفصيل الدقيق عن مسألة (التورق النقدي)، وبعض الاستدراكات حوله، لا سيما حينما قال عن النهج الدراسي السليم الذي ينتهجه المعهد العالي للقضاء، ويأخذ به طلابه؛ حيث يقول: «فهو من ناحيةٍ يهتمّ بدراسة المشكلات الفقهية الواقعة التي تُواجه الناس في هذا العصر، ومن ناحيةٍ أخرى يهتم بأن يَتَّبِع في دراسته هذه المشكلات قواعد المنهج العلمي الحديث التي تعتمد على حرية التفكير، وعمق الاستقصاء وموضوعية النظر. ومن أهم تلك المشكلات المعاصرة: التعامل بالورق النقدي الذي أصبح عامة تعامل الناس اليوم. وعند ظهور هذه المشكلة في المجال الفقهي، واجهها الفقهاء في البدء على النحو المعتاد في التفكير الفقهي؛ حيث يحاول الفقيه عند بحثه أي واقعة جديدة أن يرد هذه الواقعة الجديدة أو النازلة إلى أقرب الأوضاع الفقهية المألوفة بها شَبَهًا في رأيه، وأولاها بأن تخرّج عليها هذه الواقعة»[4].
وقد تميزت طروحات الحصين التجديدية الفقهية برؤًى أوسع وأشمل من الحكم الفقهي ذاته، فتراه قد أجاد في عرض قضية الاقتصاد، وقضية ربا القروض الحديثة، والمعاملات التجارية المُستجدّة بتوضيح أكثر -في مواضع متعددة من كتابه عن المصرفية الإسلامية-، إضافةً إلى قراءاته في هذه المستجدات، مع محاولة جادة في التجديد والاجتهاد في وسائل تناول هذه القضايا الفقهية، وهو ما يكشف عن حضارية الإسلام في فقه الاجتهاد المفتوح.
ونراه كذلك في موضوعات فقهية أخرى مثل: ميراث المرأة، وتعدد الزوجات، والحقوق في المؤلفات الشرعية يُحلِّق في التأصيل ودفع الشبهات، فهو في ميراث المرأة -كأنموذج- يقرّر خلاف بعض المتداول بين الناس، أو بين عموم الفقهاء، حينما يناقش (شبهة التمييز) بأن للمرأة نصف نصيب الرجل في الميراث، حيث يقول: إن هذا في الواقع العملي ليس على إطلاقه، فالقرآن تضمّن سبع حالات تكون فيها المرأة مع الرجل في مستوى واحد من القرابة، منها ثلاث حالات يكون للمرأة نصف الرجل، وثلاث حالات أخرى يكون فيها للمرأة مثل نصيب الرجل، ويضرب على ذلك أمثلة بأدلة وحالات، بل إنه يسوق الأدلة بمرافعة علمية كافيةٍ عن الدفاع بأن الغرب هو المجحف بحق المرأة وميراثها وحقوقها، وذلك بالنقل عن المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون، وذلك بقوله: «لا يرث الأزواج في فرنسا إلا عند عدم وجود مَن لهم حق الميراث، ويأخذون في إنجلترا بالعكس جميع التركة. ولا ترث الزوجات في فرنسا أزواجهن إلا عند عدم وجود مَن لهم حق الميراث، ويأخذون في إنجلترا نصف التركة إن لم يكن لهم ورثة آخرون، ويأخذ بيت المال بقية التركة، وإذا كان للزوج المتوفى زوجة وأولاد؛ أخذت الزوجة ثلث التركة، وأخذ الأولاد أو الحفدة بقيتها»[5].
بل إن الحصين يكرر مقارنة غوستاف لوبون بين حضارية العدالة في الإسلام وغيره في الشأن الأُسريّ -على سبيل المثال-، وذلك بقوله: «تُعدُّ مبادئ المواريث التي نص عليها القرآن بالغة العدل والإنصاف… ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق [القوانين] الفرنسية والإنجليزية أن الشريعة الإسلامية مَنَحَت الزوجات -اللائي يُزعَم أن المسلمين لا يعاشرونهن بالمعروف- حقوقًا لا تَجِدُ مثلها في قوانيننا»[6].
وقد كتب الحصين -كأنموذج فقهي آخر في التجديد- حول تعدد الزوجات وحقوق الإنسان، أن من حقوق المرأة ذلك التلازم الكبير بين العدالة في حقوق اليتامى وأمهاتهم الأرامل، والذي يستلزم في أحيانٍ كثيرة أهمية أو ضرورة تعدد الزوجات، وقد استدل على هذا التلازم بالآية الثالثة من سورة النساء: { {وَإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}} [النساء: ٣].
والحصين وهو يناقش هذا الموضوع يؤكد أن حق المرأة وكرامتها يقتضيان أن تحظى بزوج وإن كانت ليست الزوجة الأولى، فهو حقّ لها لا يقل عن حق الرجل بالتعدد! كما أن من الحق لها أن تحظى بأولاد وبحق الإنجاب والأمومة، فمعيشة الأطفال اليتامى مع أمهم مع زوج آخر مما تتحقق به كرامة الجميع وحقوقهم، وهو جانب حضاري مشرق للإسلام وتشريعاته بحق المرأة والمجتمع.
وعن هذا الموضوع (التعدد في الإسلام) فصَّلَ كثيرًا، وبَيَّنَ وأوضح عن تكريم المرأة في الإسلام، ويمكن اختيار هذه الكلمات الموجزة من أقواله: «إذا تأملنا ما سبق أدركنا مدى الظلم والإجحاف الذي يلحق بالمرأة إذا عاشت في مجتمع يُحدِّد بالتقاليد أو بالقانون فُرصتها في الحصول على الحقوق المذكورة، ولا شك أن المجتمع الذي يقلّ فيه طلب الرجال على النساء -كما في المجتمعات التي يتحدد فيها تعدد الزوجات- تتحدد فيه فرصة المرأة في الحصول على تلك الحقوق، والواقع شاهد على ذلك»[7].
وخلاصة أخرى يقول فيها الحصين عن هذه الحقوق وحضاريتها دون مزايدات غربية على حقوق المرأة وكرامتها في الإسلام: «فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة، والزواج، وتمتعها بالجوّ الأسري الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة، إذا كانت هذه الحقوق بهذه الأهمية للمرأة؛ فإنَّ أيّ دولة أو مجتمع يُحدِّد ويُضيّق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يَدَّعي العدل في جانب المرأة، ولا العمل لصالحها وسعادتها»[8].
ومما يُضاف إلى ما سبق من الجوانب الفقهية التي جمع فيها الحصين بين الفقه والفكر بتجديد يتعلق بالمقاصد الشرعية: ما ورد في مقالتيه الشهيرتين بعنوان «هل للتأليف الشرعي حق مالي؟» والآخر بعنوان «هل للمؤلفات الشرعية حق مالي؟»، والمقالتان قائمتان على التأصيل العلمي الفقهي بما يخص العلوم الشرعية، ومقيّدة كذلك بحق المؤلفين المسلمين دون سواهم، مع عدم إغفال الجانب القانوني وأنظمة حقوق الملكية الفكرية، ولهذا ناقش هذه الجوانب بتفصيل ووضوح، وفرَّق بين حقوق المؤلف وحقوق الناشر، والمهمّ هو قدرة الحصين على تأصيل حقوق التأليف والمؤلفات الشرعية بالجمع بين الفقه والفكر والقانون.
وعن موضوع هل للمؤلفات حق شرعي؟ كَتَبَ الحصين خُلاصة مفيدة تفتح الآفاق للباحثين والقُراء من خلال بعض النُقاط المهمة، والتي من أبرزها:
«1- إن الحق المالي للمؤلّف مصدره القانون، فالقانون يُوجده، والقانون يلغيه، والقانون يحدّد نطاقه من حيث الزمان والمكان والنوع ووجوه الانتفاع.
2 – القانون الذي أوجد هذا الحق لأول مرة، نشأ في تربة النظام الرأسمالي العلماني المخصَّبة بالفردية والمشاحّة والمغالبة وسيادة معيار المنفعة المادية.
3 – نظام حماية حقوق المؤلف السعودي مصدره التاريخي القوانين الغربية والاتفاقيات الدولية، ومع ذلك فلا يلزم بالضرورة أن يُرجع في تفسيره إلى مصدره التاريخي، بل يجب من الناحية القانونية عند تفسيره أو تنفيذه مراعاة انسجامه مع القانون الأعلى للمملكة (شريعة الإسلام) بروحها ومقاصدها وقواعدها، ومراعاة انسجامه مع البيئة التي يُطبّق فيها. والبيئة في المجتمع المسلم كمجتمع المملكة العربية السعودية، من المفترض أن تسود فيها قِيَم الإخلاص لله، وروح الاحتساب، ورجاء لقاء الله، والأمل في الباقيات الصالحات، وذلك على خلاف بيئة المجتمع الرأسمالي»[9].
وهو في هذه النقطة الثالثة يلفت انتباه المؤلفين في جوانب العلوم الشرعية إلى أهمية التميُّز الحضاري في الإخلاص والاحتساب في مؤلفاتهم، وأن لا يكونوا نسخة من البيئة التي تُقدِّس الاقتصاد وتنسى نفع المجتمع، وما عند الله خيرٌ وأبقى من الأجر والثواب.
ويُوجِّه الحصين في آخر مقاله الثاني عن الحق المالي في المؤلفات الشرعية، بالنداء والنصح لعلماء الأمة، بالتحرر من جميع أنواع الرق الثقافي، كما هو الحال في بعض جوانب الملكية الفكرية العالمية، وذلك بقوله: «إن كاتب المقالة يناشد علماء الأمة أن يعوا مسؤوليتهم، ويعملوا لمكافحة الخطر المحدق من أخطار الغزو الفكري والثقافي الداهم، وأن يحرصوا -وهم على ثغرات الإسلام- أن لا يُؤتَى الإسلام مِن قِبَلِهم»[10]، ومحاولة التخلص من هذا الرقّ الحضاري المعاصر والتقليد الفقهي هو ما أحدث عند الحصين التوازن في الفهم والرؤى والأحكام المتميزة.
والموضوع هنا عن جمع الحصين بين الفقه والفكر والتجديد بهما ليس عرضًا تفصيليًّا عن هذه الموضوعات التي طَرَقها وأجاد فيها وأفاد حولها، ولكنها إشارات تؤكد عنوان الموضوع دون تغطية شاملة له.
وهو بهذا الطرح لعُمْق القضايا الحديثة المعاصرة بتحدياتها الفقهية يعرض إمكانية الاجتهاد الشرعي وأهميته وضرورته المعاصرة، لوضع قواعد وأنظمة قضائية -على سبيل المثال- لا تتعارض مع الأصول والقواعد الفقهية العامة، ومن يقرأ في عناوين بحثه الفقهي الذي قدَّمه رسالة للماجستير يُدْرِك مدى إمكانيات الاجتهاد الفقهي في التشريع الإسلامي، وأن الإسلام بالفعل تحديث وتجديد، بل مُحرِّرٌ للبشرية من التقليد والتعبية الممقوتة، وهو ما يُبرز حضارية الإسلام، خلافًا للأديان الأخرى التي أصابها التشويه والتحريف، حتى احتاج أتباع اليهودية والنصرانية إلى التحديث والحداثة بنبذ الدين، ففقدوا بوصلة الحياة السعيدة، حينما ضلوا الطريق الصحيح والسويّ مرتين!
كما أن رسالة الماجستير للشيخ المفكر تُوضِّح ما لديه من سعة الاطلاع والإلمام الفقهي في أقوال الفقهاء ومذاهبهم الفقهية، إضافةً للعمق الفكري المصاحب، ويظهر هذا من خلال استعراض بعض تفاصيل رسالته العلمية وفهارسها وموضوعاتها؛ ليتأكد القارئ أن هذا البحث العلمي في هذه الرسالة كان من العوامل القوية المؤثرة على قوته العلمية، خاصةً في بناء الجانب الفقهي لديه، وهذا الطرح التجديدي في أبحاثه ودراساته وما يُماثله، هو ما استوجب كتابة هذه النماذج من الموضوعات الفقهية -سابقة الذكر– التي تعكس شيئًا من معالم شخصيته الفقهية والفكرية وحِسِّه الحضاري.
[1] رؤى تأصيلية في طريق الحرية من كلام الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين، طبعة العبيكان، ص26-27.
[2] المرجع السابق، ص27.
[3] المرجع السابق، ص27.
[4] انظر: تقديم الشيخ صالح الحصين لكتاب الشيخ عبدالله بن سلميان المنيع، (الورق النقدي: تاريخه، حقيقته، قيمته، حكمه)، الطبعة الثانية، 1404هـ (1984م)، ص9، وانظر عن التقديم كاملًا في الملحق رقم (4).
[5] مقال للحصين، بعنوان: (انتقادات موجهة للإسلام)، نقلًا عن: غوستاف لوبون، حضارة العرب، ص409. والنصوص منقولة من مصادرها الأصلية.
[6] المرجع السابق، ص402.
[7] المرجع السابق.
[8] مقال للحصين بعنوان: (تعدد الزوجات وحقوق الإنسان).
[9] مقال للحصين بعنوان: (هل للتأليف الشرعي حق مالي؟).
[10] المرجع السابق.
Source link