أرشد النبي ﷺ المسلم إلى أن يكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام؛ كما في الحديث السابق: «فأكثروا فيهن التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد».
قال الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ 28 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} } [الحج: 27 – 28]. قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: «الأيام المعلومات: أيام العشر»[1].
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالْفَجْرِ 1وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: ١ – ٢]. قال الحافظ ابن كثير: «الليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة؛ كما قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم من السلف والخلف»[2].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وإقسام الله تعالى ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته»[3].
وقد ورد حديث نبوي هام في فضل هذه العشر: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر». فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: «ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج ( (يخاطر) ) بنفسه وماله ( (في سبيل الله) ) فلم يرجع من ذلك بشيء»[4].
وعن سعيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى»[5]. الحديث بتمامه.
قال القاسم: «وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه».
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام: عشر ذي الحجة؛ فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد»[6].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام». قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا من خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع حتى تهراق مهجة دمه»[7].
قَالَ العلماء: مُهجة كل شَيْء: خالصُه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أحب إلى الله أن يُتَعبَّد له فيها من عشر ذي الحجة؛ يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر»[8].
نفحات ربانية:
لقد أكدت تلكم النصوص القرآنية والنبوية على فضيلة الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة؛ وأن العمل الصالح فيها كالصلاة والصيام والعمرة والذكر والصدقة والدعوة إلى الله… هذه العبادات وغيرها أعظم أجراً في هذه الأيام من غيرها.
فالصحابة كان متقرراً عندهم أن أفضل الأعمال بعد الفرائض: الجهادُ في سبيل الله، وفي ذلك أحاديث، منها:
عن أبي ذر رضي الله عنه قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله»[9].
والجهاد هو أعلى ما في هذا الدين وأرفعه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد»[10].
ومع منزلة الجهاد تلك كان العمل الصالح الذي يعمله المسلم في هذه العشر؛ من صلاة وصيام وصدقة… ونحوها، أفضل من الجهاد، وأكثر أجراً منه، إلا مسلماً خرج للجهاد في سبيل الله، وأنفق في ذلك ماله كله، فقُتل شهيداً في سبيل الله تعالى[11].
وبهذا تكون هذه العشر من النفحات الربانية التي قال عنها نبينا صلى الله عليه وسلم : «افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمِّن روعاتكم»[12].
العمل الصالح:
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المسلم إلى أن يكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام؛ كما في الحديث السابق: «فأكثروا فيهن التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد».
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «كان يصوم تسع ذي الحجة»[13]. وقد رغَّب كثيراً في صيام التاسع منها؛ وهو يوم عرفة، عن أبي قتادة: أتى رجلٌ النبيَ صلى الله عليه وسلم ، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه، قال: «رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله».
فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر: يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: «لا صام ولا أفطر». قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: «ويطيق ذلك أحد» ؟». قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: «ذاك صوم داود عليه السلام». قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: «وددت أني طوقت ذلك». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله. صيام يوم عرفة: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده. وصيام يوم عاشوراء: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»[14].
وعن عمر رضي الله عنه قال: «ما من أيام أحب إليَّ أن أقضي فيها شهر رمضان من أيام العشر»[15].
قال الحافظ ابن حجر: «والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره»[16].
وقال ابن الملك: «لأنها أيام زيارة بيت الله، والوقت إذا كان أفضل كان العمل الصالح فيه أفضل»[17].
يوم النحر:
واليوم العاشر منها هو يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، وفيه يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : «أفضل الأيام عند الله يوم النحر»[18].
وقد جعله الله تعالى لهذه الأمة عيداً؛ وكأنه مسك ختام العشر وتاج فضلها، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «قد أبدلكما الله خيراً منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى»[19].
والتقرب إلى الله تعالى بالأضحية من أجَلِّ أعمال العشر لمن صحح نيته، قال الله سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: ٢].
وقال عز وجل: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 – 163].
وقال سبحانه وتعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْـمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
فلا بد من تشبُّع القلب بتعظيم شعائر الله، وترويض السلوك على المبادرة لامتثال أمره، وإظهار توحيده.
ويوم الأضحى شرع لإحياء سنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما السلام، من أجل ربط الناس بهديهما، وتذكيرهم بمواقفهما العظيمة في الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا وطاعته: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْـمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
إنها الطاعة المطلقة المؤسَّسة على التوحيد الكامل.واستحكام هذا المعنى في النفس هو لبُّ العبادة ومخها في العشر خصوصاً، وفي غيرها عموماً؛ فموسم العشر: يشكل محطة لتعميق التوحيد في النفس، وترويضها على طاعة بارئها؛ والاقتداء بالخليل وابنه في طاعة الخالق تبارك وتعالى.
كما أن الإحسان إلى الفقراء وإكرامهم؛ من أهم المقاصد؛ كما قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
المقصدان الأساسيان إذن:
١ – الوصول إلى مقام الإحسان في عبادة الخالق.
2 – تنمية سلوك الإحسان إلى المخلوق.
وقد وضَّح ربنا سبحانه المقصدين في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْـمُخْبِتِينَ 34 الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْـمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ 35 وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْـمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 36 لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْـمُحْسِنِينَ} [الحج: 34 – 37].
[1] أورده البخاري (969) معلقاً، ووصله عبد بن حميد كما في الفتح (2/582).
[2] تفسير القرآن العظيم (4/519).
[3] التبيان في أقسام القرآن (ص: 5).
[4] رواه البخاري (969) وأبو داود (2438) والترمذي (757) وقال: «حسن صحيح غريب»، والدارمي (1773) وابن ماجه (1727) وأحمد (1968) و (3139) و (3228) وعبد الرزاق (4/376 و 8121) والبيهقي (8392) وفي الصغرى (1419) كلهم من طريق الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
[5] رواه الدارمي (1776) عن القاسم بن أبي أيوب، وهو ثقة والسند صحيح.
[6] رواه أحمد (5446) وعبد بن حميد (807) من المنتخب، وابن أبي شيبة (4/332) من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر.
ويزيد هذا ضعيف، لكن تابعه موسى بن أبي عائشة عند أبي عوانة في صحيحه.
وقد صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5/68).
تنبيه: الحديث رواه خالد بن يزيد عن مجاهد عن ابن عباس، فجعله من مسند ابن عباس وهذا خطأ، كذا أخرجه الطبراني (11116).
ورواه معمر عن يزيد عن مجاهد مقطوعاً، وقال في آخره: «وهي العشر الذي أتمه الله لموسى». أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/376 – 8119).
[7] رواه أحمد (2/161) بسند فيه أبو عبد الله مولى ابن عمرو، وهو مجهول.
لكن رواه أيضاً في (2/167) بسند آخر ضعيف؛ علته إبراهيم بن المهاجر، وهو لين الحفظ؛ فيتقوى أحد السندين بالآخر، فالحديث ثابت عن عبد الله بن عمرو.
[8] رواه الترمذي (758) وابن ماجه (1728) وابن الأعرابي في المعجم (938) والبيهقي في الشعب (3480) وابن عدي في الكامل (8/326-327) مختصراً.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب». قلت: أي ضعيف، لكن شطره الأول ثابت بما سبق. وانظر: الضعيفة (5141).
[9] رواه البخاري (26 و 1519) ومسلم (83).
[10] رواه أحمد (5/230 و 236) والترمـذي (2616) وقال: «حسـن صحيح»، وابن ماجه (3973).
[11] وهذا العمل الجليل (الجهاد)، أساء فهمَ أحكامه ومقاصده بعضُ الجهلة الذين يتحركون بالعواطف التي لا تتقيد بالضوابط الشرعية؛ فقتلوا أنفسهم، واستباحوا أرواح المسلمين، وسفكوا دماء المعاهدين والمستأمنين، ونشروا الرعب والفتن في الأمة، وأهدوا لأعداء الإسلام (المتربصين بأهله) حُججاً يتذرعون بها في حملاتهم الشرسة على هذا الدين وأهله، كفى الله المسلمين شرَّ مكرِ هؤلاء وجهلِ أولئك، وهدانا جميعاً سواء السبيل.
[12] رواه الطبراني في «الكبير» (720)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 511).
[13] رواه أبو داود (2437).
[14] رواه مسلم في صحيحه.
[15] رواه البيهقي (4/472 – 8395).
[16] فتح الباري (2/585).
[17] تحفة الأحوذي (3/501).
[18] رواه أبو داود (1765) وصححه الحاكم، وقال ابن القيم: «إسناده صحيح». التبيان لأقسام القرآن (ص: 19).
[19] سبق تخريجه.
Source link