سيرة الزبير بن العوام – طريق الإسلام

مقْتطفات من سيرة علَم من أعلام هذه الأمَّة، وبطل من أبطالِها، صحابي جليل من أصْحاب النَّبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – نقتبِس من سيرتِه العطرة الدُّروس والعِبَر

د. أمين بن عبدالله الشقاوي

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشْهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله.

وبعدُ:

فقد قال تعالى: { ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾} [الأحزاب: 23].

فهذه مقْتطفات من سيرة علَم من أعلام هذه الأمَّة، وبطل من أبطالِها، صحابي جليل من أصْحاب النَّبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – نقتبِس من سيرتِه العطرة الدُّروس والعِبَر، ونقْتدي به في جهادِه وتضْحيته لهذا الدِّين، هذا الصَّحابي شهِد المشاهد كلَّها مع رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – شهد بدرًا، وأُحُدًا، والخندق، وغيرها من معارك المسْلِمين الفاصلة، وقدِ اشتهر بالفروسيَّة والشَّجاعة، يقول عنه المؤرِّخون: إنَّه يُعَدُّ بألف فارس.

أسلم هذا الصَّحابي وهو في ريْعان شبابه، لَم يتجاوزِ السَّادسة عشر عامًا، قال النَّبيّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه – منهم: – شابٌّ نشأ في عبادة الله»[1]، وهو أوَّل من سلَّ سيفه في الإسلام، وكان من السَّابقين إلى الإسلام.

أسلم على يَد أبِي بكْرٍ الصدِّيق، وقد هاجر الهِجْرَتين؛ الأولى: إلى الحبشة، والثَّانية: إلى المدينة، آخى النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – بيْنه وبين عبدالله بن مسعود، وهو حواريّ[2] رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال عنه عُمر بن الخطَّاب: “إنَّه ركنٌ من أرْكان هذا الدِّين”، وعند وفاته لَم يبقَ موضع في جسده إلاَّ وبه جرح مع رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – حتَّى انتهى منْه ذلك إلى الفرْج، بل إنَّ صدْره الَّذي يقابل به الأعداء أصبح كأمثال العيون من الضَّربات والطَّعنات، وهو أحد العشَرة المبشَّرين بالجنَّة، بشَّره النَّبيّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – بالجنَّة وهو على قيد الحياة.

إنَّه فارس الإسلام: الزُّبير بن العوَّام بن خُوَيْلد القرشي الأسدي، ويكنى أبا عبدالله، وله قرابة من النَّبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – من جِهَتَين؛ فأمّه صفية بنت عبدالمطَّلب عمَّة رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وأيضًا هو ابنُ أخي أمِّ المؤمنين خديجة بنت خُوَيْلد، زوْج النَّبيّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم.

وصَفَه أهل السِّيَر بأنَّه كان رجُلاً طويلاً فارع الطُّول، إذا ركب الفرَس تخطُّ رِجْلاه بالأرض، خفيف اللّحية والعارضَين، يَميل إلى السمرة، وهذا الصَّحابي نموذج فريد للتَّضحية والبذْل والنُّصرة لهذا الدين.

فمِن مواقفه العظيمة ما رواه البخاريُّ ومسلم من حديث جابر – رضِي الله عنْه «– أنَّ النَّبيَّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال يوم الأحزاب: ((مَن يأتينا بخبر القوم؟))، فقال الزبير: أنا، ثمَّ قال: ((مَن يأتينا بخبر القوم؟))، فقال الزبير: أنا، ثمَّ قال: ((مَن يأتينا بخبر القوْم؟))، فقال الزبير: أنا، ثمَّ قال: ((إنَّ لكلِّ نبيٍّ حواريًّا، وإنَّ حواريّ الزُّبير))» [3]، وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: أنَّ الزبير قال: «لقد جمع لي رسولُ اللهِ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يومئذٍ أبوَيْه، فقال: ((فِداك أبي وأمي))» [4].

ومن مواقفه العظيمة كذلك ما حدث في فتح مصْر، عندما استعْصت على جيش المسلمين، ودام الحصار سبعةَ أشهُر، فتقدَّم وقال: أهَب نفسي لله وللمُسْلمين، فوضع سلَّمًا وأسنده إلى جانب الحِصْن ثمَّ صعد عليْه، وأمر بقيَّة الجنود إذا سمِعوا تكبيراتِه أن يُجيبوه جميعًا، ثمَّ رمى بنفسِه في الحِصْن، فلم يشْعُر الأعداء إلاَّ والزُّبير داخل الحصن، فبدأ يضْرِب بسيْفِه حتَّى وصل إلى الباب وفتحه، وكبَّر المسلمون ودخلوا الحِصْن، وكان الفتح الكبير.

وكان له موقف بطولي رائع في معركة اليرموك الشَّهيرة، وكان عدد جيْش الروم مائَتَي ألف مقاتل – كما يذكر المؤرخون.

روى البخاري في صحيحه من حديث هشام بن عُرْوة عن أبيه، أنَّ أصحاب رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قالوا للزُّبير يوم اليرموك: “ألا تشدّ فنشدّ معك؟”، فقال: إنّي إن شددتُ كذبْتُم، فقالوا: لا نفعل، فحمل عليْهِم حتَّى شقَّ صفوفَهم فجاوَزَهم وما معه أحد، ثمَّ رجع مقبِلاً، فأخذوا بلِجامه، فضربوه ضربتَين على عاتقِه، بينهما ضربة ضربَها يوم بدر، قال عروة: كنتُ أُدْخِل أصابعي في تلك الضَّربات ألعب وأنا صغير، قال عروة: وكان معه عبدالله بن الزُّبَير يومئذٍ، وهو ابنُ عشْر سنين، فحمله على فرسٍ ووكل به رجلاً[5].

ولمَّا حدثتْ معركة الجمل قال لابنه عبدالله – كما في سُنن التّرمذي من حديث هشام بن عروة -: ما منِّي عضوٌ إلاَّ وقد جُرح مع رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – حتَّى انتهى ذاك إلى فرْجه[6]، قال علي بن زيد: أخبرني مَن رأى الزُّبير أنَّ في صدره أمثال العيون من الطَّعن والرمي[7].

وكان يوم بدر معتجِرًا بعمامة صفراء، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر[8]، وهذه منقبة عظيمة له – رضِي الله عنْه وأرْضاه.

ومن مواقفه العظيمة التي تدلُّ على شجاعته وقوَّته: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث هشام بن عروة عن أبيه، قال: قال الزُّبير: لقيتُ يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مدجَّج لا يُرى منه إلاَّ عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليْه بالعنزة[9] فطعنْتُه في عينه فمات، قال هشام: فأخبرتُ أنَّ الزُّبير قال: لقد وضعتُ رجْلي عليه، ثمَّ تمطَّأت، فكان الجهد أن نزعْتُها وقد انثنى طرفاها، قال عرْوة: فسأله إيَّاها رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فأعطاه، فلمَّا قُبض رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – أخذها، ثمَّ طلَبها أبو بكر فأعطاه، فلمَّا قُبض أبو بكر سألها إيَّاه عمر فأعطاه إيَّاها، فلمَّا قُبض عمر أخذها، ثمَّ طلبها عثمانُ منْه فأعطاه إيَّاها، فلمَّا قتل عثمان وقعتْ عند آل عليّ، فطلبها عبدالله بن الزبير فكانتْ عنده حتَّى قُتل[10].

ومِن مواقفه أنَّ الزُّبير ضرب يوم الخندق عثمان بن المغيرة بالسَّيف على مغفره[11]، فقطعه إلى القربوس[12]، فقالوا: ما أجودَ سيفَك! فغضب الزُّبير، يريد أنَّ العمل ليده لا للسَّيف[13].

وكان – رضِي الله عنْه – رجلاً غنيًّا كريمًا يُنفق ولا يُبالي، له من المماليك ألف مَملوك كلهم يؤدّي إليه الخراج، فكان لا يُدخِل بيتَه منها شيئًا، يتصدَّق به كلّه.

في صحيح البخاري أنَّه قال لابنه عبدالله يوم الجمل: يا بُنَيّ، إنَّه لا يقتل اليوم إلاَّ ظالم أو مظلوم، وإنّي لا أُراني إلاَّ سأقتل اليوم مظلومًا، وإنَّ من أكبر همِّي لَدَينِي، قال عبدالله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بُنيَّ، إن عجزتَ عنْه في شيء فاستعِنْ عليْه مولاي، قال: فوالله ما دريتُ ما أراد حتَّى قلتُ: يا أبتِ مَن مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعتُ في كربة من دَينه إلاَّ قلتُ: يا مولى الزبير، اقضِ عنه دينَه، فيَقضيه[14].

وكان قتْله بعد معركة الجمَل، ذكَر أهل السِّيَر أنَّه انسحب من المعركة في مكانٍ يقال له: وادي السباع[15]، وأنشد يقول:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَوَ انَّ عِلْمِيَ نَافِعِي 

أَنَّ الحَيَاةَ مِنَ المَمَاتِ قَرِيبُ 

فأدْركه في الوادي رجُل يُقال له: عمْرو بن جرموز وهو نائِم في القائلة، فهجم عليْه فقتله، وقيل: إنَّه قتله وهو يصلِّي غيلة[16]، ثمَّ أخذ سيْفه وذهب إلى عليّ؛ لينال منزلة عنده، فرفض عليٌّ أن يأذَن له، وقال: بشِّر قاتل ابنِ صفيَّة بالنار، سمعت رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يقول: (( «إنَّ لكلّ نبيٍّ حواريًّا، وإنَّ الزُّبير بن العوَّام حواري» ))[17]، ولمَّا رأى عليّ سيفَ الزبير قال: “إنَّ هذا السَّيف طالما فرج الكرب عن وجْه رسولِ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم”.

قال ابن المَديني: سمعتُ سفيان يقول: جاء ابنُ جرموز إلى مصعب بن الزُّبير – يعني لمَّا ولِي إمْرة العراق لأخيه الخليفة عبدالله بن الزُّبير – فقال: أقِدني بالزُّبير، فكتب في ذلك يُشاور ابنَ الزُّبير، فجاءه الخبر: أنا أقتل ابنَ جرموز بالزُّبير؟ ولا بشِسْع نعلِه.

قال الذَّهبي – رحِمه الله -: أكل المعثَّر يديْه ندمًا على قتْلِه واستغفر، لا كقاتِل طلحة، وقاتل عثمان، وقاتل علي[18].

قالت زوجته عاتكة بنت زيد بن عمْرو في رثائه: 

غَدَرَ ابْنُ جُرْمُوزٍ بِفَارِسِ بُهْمَةٍ [19]

يَوْمَ اللِّقَاءِ[20] وَكَانَ غَيْرَ مُعَرِّدِ[21] 

يَا عَمْرُو لَوْ نَبَّهْتَهُ لَوَجَدْتَهُ 

لا طَائِشًا[22] رَعِشَ[23] البَنَانِ وَلا اليَدِ 

ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِمِثْلِهِ 

فِيمَا مَضَى مِمَّا تَرُوحُ وَتَغْتَدِي 

كَمْ غَمْرَةٍ[24] قَدْ خَاضَهَا لَمْ يَثْنِهِ 

عَنْهَا طِرَادُكَ يَا ابْنَ فَقْعِ[25] الفَدْفَدِ[26] 

وَاللَّهِ رَبِّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا 

حَلَّتْ عَلَيْكَ عُقُوبَةُ المُتَعَمِّدِ 

ولبعضهم:

إِنَّ الرَّزِيَّةَ مَنْ تَضَمَّنَ قَبْرَهُ 

وَادِي السِّبَاعِ لِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ 

لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ 

سُورُ المَدِينَةِ وَالجِبَالُ الخُشَّعُ 

 

قال تعالى: { ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ } [النساء: 93]، وكان قتْله – كما قال البُخاري وغيرُه -: في رجبٍ سنة ستٍّ وثلاثين من الهجرة، وله أربع وستُّون سنة[27].

رضِي الله عن الزُّبير، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء، وجَمَعنا به في دار كرامتِه مع النَّبيِّين، والصدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وحسُن أولئِك رفيقًا.

والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحْبِه أجْمعين.


[1] ص 277 رقم 1423، وصحيح مسلم: ص397 برقم 1031.

[2] الحواري هو: خاصة الإنسان وصفيّه المختص به.

[3] ص 781 برقم 4113، وصحيح مسلم: ص 984 برقم 2415.

[4] ص 711 برقم 3720، وصحيح مسلم: ص 984 برقم 2416.

[5] ص 755 برقم 3975.

[6] ص 584 برقم 3746، وقال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث حمَّاد بن زيد، وصحَّحه الألباني – رحمه الله – في صحيح سنن التّرمذي (3 /217) برقم 2945.

[7] “سير أعلام النبلاء” (1 /52).

[8] الحاكم في المستدرك (4 /438) برقم 5608، وقال محقِّقه: إسناده صحيح.

[9] العنزة: أطول من العصا وأقصر من الرُّمح، في أسفلها زج كزج الرمح، يتوكَّأ عليها الشيخ الكبير؛ (القاموس ص 631).

[10] ص 759 برقم 3998.

[11] المغفر: زرد ينسج من الدّروع على قدر الرأس، “فتح الباري” (4 /60).

[12] القربوس: مقدم السَّرج ومؤخره.

[13] “سير أعلام النبلاء” (1 /51).

[14] جزء من حديث في صحيح البخاري: ص 598 – 599 برقم 3129.

[15] موضع قريب من البصرة على بعد سبعة فراسخ منها.

[16] أي: غدرًا.

[17] مسند الإمام أحمد (2 /181) برقم 799 وقال محقِّقوه: إسناده حسن.

[18] سير أعلام النبلاء (1 /64).

[19] البهمة – بضم الموحَّدة وسكون الهاء -: الشُّجاع، وقيل: هو الفارس الَّذي لا يُدْرَى من أين يُؤتى له؛ من شدَّة بأسه.

[20] اللقاء: الحرب؛ لأنَّها تتلاقى فيها الأبطال.

[21] المعرِّد: اسم فاعل من “عرَّد تعريدًا” بمهملات؛ إذا فرَّ وهرب.

[22] طاش يطيش؛ إذا خفَّ عقلُه من دهْشة وخوف.

[23] رعش – بكسْر العين المهْملة -: وصْف من رعِش كفرح ومنَع… رعشًا ورعشانًا: أخذتْه الرعدة.

[24] غمرة – بالفتح -: الشدَّة.

[25] الفقع – بفَتْح الفاء وكسْرها وسكون القاف -: نوع أبيض من رديء الكمأة.

[26] الفدفد: الأرض المستوية، وفقْع الفدفد مثَلٌ للذَّليل.

[27] سير أعلام النُّبلاء (1 /68).

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *