الانسجام والتفاهم الزوجي وسيلة مهمة للتغلب على المشكلات بين الزوجين، أو تقليص وعدم نشوب كم كبير منها من الأصل؛ كما أن له أثرا عجيبا في نفوس الأطفال ومدى تقبلهم لتوجيهات وغراس الأوبين لهم خاصة في مراحل الطفولة الأولى
التفاهم والانسجام بين الزوجين هو أحد أهم مقومات نجاح الحياة الزوجية واستقرار الأسرة، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إنه ربما يكون أهمها، لما له من أثر عميق، ليس على الزوجين فحسب، بل على جميع أفراد الأسرة صغيرها وكبيرها، فالزواج أعظم شراكة اجتماعية، وما من شراكة ناجحة إلا وبين أطرافها حالة من الانسجام والتفاهم والاحترام المتبادل، لذا فالتفاهم وتد قوي من أوتاد العلاقة الزوجية الناجحة.
وهو أيضًا أحد الوسائل العظيمة للتربية، فصورة الزوجين التي ترتسم أمام الأطفال وهما على قلبٍ واحد في الرأي والتوجه تعطي انطباعًا نفسيًا قويًا لدى الناشئة عن متانة العلاقة بين والديهما، وحتى لو وجدت بينهما اختلافات -وهذا أمر طبيعي- فإن التفاهم الذي بينهما كفيل بجعلهما يتخطيان هذه الاختلافات بكل رقي وسمو في العلاقة. وهذا يرسخ لدى الأبناء أهمية وجود هذا التفاهم وهذه العلاقة الراقية في العلاقات التي سينشئونها في المستقبل، فينمو الأطفال على أهمية التفاهم والانسجام، ويرونه واقعًا عمليًا ماثلاً أمامهم.
الانسجام والتفاهم أيضًا هو أولى المراحل التي تؤدي إلى الحب والمودة والسعادة بين الزوجين، فالنفس تألف من يتفق معها في توجهاتها العامة، وتنفر ممن يعارضها باستمرار ويشكل لها مصدر إزعاج أو يكون عبئاً ثقيلاً عليها. والتوافق النفسي والهدوء الناتج عن حالة الانسجام والتفاهم الزوجي هو أول درجات تحقيق السعادة داخل المنزل، والعكس صحيح، فالخلاف المستمر والشجار وحالة الاستنفار المتواصلة هي مصدر قلق واضطراب وتوتر لجميع أفراد الأسرة بمن فيهم الأبناء، وهي كفيلة بإشاعة جو من الكآبة والحزن على الجميع، وهذا له تأثير نفسي في غاية السوء على كافة المستويات.
منذ البداية إذا لم تكن تعتقد أنه يمكنك التعايش مع صفات الطرف الآخر فلا تدخل في العلاقة من الأساس، لأن الزواج ليس ميدان معركة تغيير، وإنما هو تراضٍ بين الطرفين ابتداءً بما عليه كل منهما
أيضًا الانسجام والتفاهم الزوجي وسيلة مهمة للتغلب على المشكلات بين الزوجين، أو تقليص وعدم نشوب كم كبير منها من الأصل؛ نظرًا لأنه يصبح بين الزوجين أرضية صلبة من القواعد والمبادئ أشبه ما تكون بالدستور الذي يتحاكمان إليه، ولغة تواصل قوية وفهم كل منهما للآخر بصورة تجنبهما الخلاف، فالفهم العميق لشخصية كل منهما للآخر يجعلهما يحسنان الظن ببعضهما حتى عند الخطأ، ويجعل لغة التواصل بينهما في أعلى درجاتها، حتى إنه يمكن لأحدهما أن يفهم الآخر من خلال إشارة أو نظرة عين أو تعبير وجه.
التفاهم قبل الزواج أم بعده؟
الشرط الأساسي لحدوث التفاهم بين الزوجين بعد الارتباط أن تكون له جذور تفاهمية وانسجامية قبل الزواج؛ فإنه يبدأ قبل أن يكون الطرفان زوجين أصلاً، كيف ذلك؟ عند اختيار كل طرف منهما للآخر في بداية الارتباط، فإن الأرضية المشتركة بينهما لابد أن تكون واسعة للغاية، ثم تأتي الفروق البسيطة لتكمل الصورة، لكن في المجمل ينبغي أن تكون مواضع الاتفاق أكبر بكثير من مواضع الاختلاف.
فالقضايا المحورية الكبرى مثلاً لابد أن يكونا متفقين فيها، كالتوجه الديني والفكري مثلاً. فمن الأخطاء الشائعة في الاختيار أن تكون للزوج اشتراطات دينية أو فكرية أو اجتماعية معينة في شريكة حياته وأسرتها، كأن تكون ملتزمة مثلاً دينيًا بصورة معينة، ثم عند الاختيار يقع اختياره على شخصية غير متوافقة تمامًا مع هذا التوجه، بل ومعارضة له، فيقول سأتزوجها وبعد الزواج سأغير قناعتها هذه، ثم يتفاجآن بعد الزواج بنشوب صدامات كبيرة بسبب هذا الأمر، وأن الطرف الآخر متمسك بوضعه هذا ويكره تغييره.
فنقول منذ البداية إذا لم تكن تعتقد أنه يمكنك التعايش مع صفات الطرف الآخر فلا تدخل في العلاقة من الأساس، لأن الزواج ليس ميدان معركة تغيير، وإنما هو تراضٍ بين الطرفين ابتداءً بما عليه كل منهما، ثم انطلاق من خلال هذه القاعدة الصلبة للتعاون على مكابدة الحياة بكافة تفاصيلها، لاسيما في الأوضاع الحياتية المعقدة حاليًا والتي تشكل ضغطًا كبيرًا على الزوجين من عدة جهات (اقتصادية واجتماعية ونفسية وتربوية وسياسية).
بالإضافة إلى ذلك فإن الإنسان في هذا الزمان مكتفٍ بكمية ضخمة من المعارك في كل مكان، ولا يحتاج إلى ساحة معركة جديدة في بيته، بل على العكس، لابد أن يكون البيت هو السكن والأنس والراحة والهدوء النفسي الذي يدخله الإنسان ليشحن طاقته مرة أخرى ليتمكن من مواجهة معاركه الخارجية في الحياة؛ يقول تعالى: ( {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} ) فهذا هو الهدف الأكبر من الزواج: السكن والهدوء والطمأنينة.
فأول خطوة لتحقيق التفاهم والانسجام بين الزوجين هي اختيار شخصيات متوافقة مع أفكارنا واتجاهاتنا للارتباط بها. فإذا تحقق ذلك فكل ما بعد ذلك سهل والتعامل معه بسيط، وحينها فإن الخلافات البسيطة التي تنشأ خلال رحلة الحياة بين الزوجين يمكن السيطرة عليها بأساليب كثيرة وغير معقدة، المهم أن يكون الزوجان متفقين على الخطوط العريضة للحياة.
كيف يمكن للزوجين الوصول إلى هذه الدرجة من التفاهم والانسجام؟
الخطوة الأولى ذكرناها أن تكون بذرة التفاهم موجودة قبل الزواج.
أما الخطوة الثانية: فالتغافل، والترفع عن الأخطاء البسيطة التي قد يقوم بها أحد الطرفين، فمن منا لا يخطئ أحيانًا؟ إلا أن الوقوف على كل خطأ مهما كان صغيرًا وتافهًا يدمر التفاهم والانسجام بين الزوجين، ويجعل من بعض الأخطاء الصغيرة معارك كبرى رغم أنها لا تستحق، ويحيي روح التحفز بينهما وتصيد كل منها للآخر.
الخطوة الثالثة: وضع أهداف مشتركة وطموحة يسعى الزوجان معًا لتحقيقها، سواء أكانت أهدافًا أخروية أم دنيوية، كتحفيظ الأبناء للقرآن مثلاً، أو زرع قيمة لديهم بصورة أسبوعية، أو حصول الزوجين على درجة علمية معينة، أو التخطيط لشراء منزل أو التوسع في تجارة، أو دراسة مجال شرعي ما. كل هذا يجعلهما ينطلقان في نفس الاتجاه لتحقيق نفس الهدف والوصول لدرجة عالية من التفاهم والانسجام.
الخطوة الرابعة: الاجتماع بصورة دورية على تنفيذ أنشطة معينة معًا، كتلاوة القرآن، أو قراءة كتاب، أو الخروج في نزهة، أو مشاهدة برنامج تلفزيوني. فهذه الشراكة الجزئية في الأنشطة البسيطة تتولد عنها شراكة فكرية عامة تقرب وجهات النظر وتشيع جوًا من التفاهم.
الخطوة الخامسة: الاتفاق على طريقة واعية وراقية لحل الخلافات، فكلما ارتقى الخلاف بين الزوجين وخلا من التجريح والإهانة والشجار؛ كانت درجة الانسجام بينهما أعلى، وكانت قدرتهما على تخطي المشكلات أكبر، وكان التفاهم بينهما في أسمى درجاته.
الخطوة السادسة: تقبُّل الخلاف في الرأي، فليست كل العقول متشابهة، وطبيعي أن يكون لكلا الزوجين آراء تختلف في طبيعتها ونظرتها للأمور، وهذا ليس شرًا مادامت في الإطار المقبول، بل هذا يثري الحياة الزوجية، ويجعلها قابلة أكثر للتطور والنمو، فكل رأي مخالف لرأيي يمكن أن ينير لي بقعة ربما كانت مظلمة ومخفيّة عني. فإذا تعامل الزوجان مع الخلاف في الرأي من هذا المنطلق فسيكون ذلك أدعى للتفاهم والتطور بينهما.
________________________________________________
الكاتب: محمد الغباشي
Source link