منذ حوالي ساعة
الكلَّ مسؤول أمام الله عمَّا تحت يده، والأولاد نعمة من الله أنعم الله بها، وكلف الخلق بشكرها ورعايتها وحفظها..”
سؤال يدور بين أولياء أمور الطلبة ومدرِّسيهم عن ذلك، والواقع أن الكلَّ مسؤول أمام الله عمَّا تحت يده، والأولاد نعمة من الله أنعم الله بها، وكلف الخلق بشكرها ورعايتها وحفظها، وقد وُلِدوا على الفطرة السليمة قابلين للخير والشر الذي يلقى عليهم؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» [1].
ويقول الشاعر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ فِينَا ** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
فبصلاح الناس وحسن توجيههم يصلح أولادهم بإذن الله وتوفيقه، وقد قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُو أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، فوقاية الأنفس من النار تكون بتقوى الله وطاعته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.
ووقاية الأهل بتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم ممَّا يضرهم، وتأديبهم الأدب الحسن على وفق تعاليم الإسلام أمرًا ونهيًا وفعلًا وتركًا، فما دام الولد في البيت لم يدخل المدرسة فالمسؤولية خاصَّة بوليِّ أمره، عليه أن يرعاه حق الرعاية ويصونه غاية الصيانة، وأن يحسن تربيته بقدر المستطاع تربية إسلامية صحيحة، فإذا بلغ سنَّ التمييز عَلَّمَه الطهارة وأمره بالصلاة، فإذا بلغ عشر سنين ضربه عليها وهدَّده على تركها، امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر»[2]؛ وذلك لكي يألفها ويتمرَّن عليها ويدخل حبها في قلبه قبل بلوغه، وعلى وليِّ أمره ألاَّ يترك له الحبل على الغارب في فعل ما يهواه ويريده، بل يكون رقيبًا عليه يتعهَّده في تعليمه ما ينفعه وتحذيره مما يضرُّه، كما يتعهَّد البستاني بستانه بالسقي، وإزالة الأعشاب الضارة حتى يبدو صلاحه، وكما يتعهَّد الراعي غنمه يحفظها من الذئاب والسباع في أرض مسبعة، ويتذكر قول الشاعر:
وَمَنْ رَعَى غَنَمًا فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ ** فَنَامَ عَنْهَا تَوَلَّى رَعْيَهَا الأَسَدُ
فإذا سلم الولد إلى المدرسة اشترك في تربيته المدرسون من ناحية وأولياء الأمور من ناحية أخرى، وحينئذ يميل الطالب إلى تقليد المدرس والتأثر بأقواله وأفعاله أكثر ممَّا يميل إلى والديه، فعلى المدرس تقوى الله في ذلك وإصلاح نفسه قبل أن يكون مدرسًا، وليعلم أنه مسؤول مؤتمن فليؤدِّ الأمانة وليحذر من الخيانة فيها في توجيه الطلبة وتعليمهم وتأديبهم، وليكن قدوة صالحة للطلبة في قوله وفعله وعمله؛ فهو محطُّ أنظار الطلبة وقدوتهم في الخير والشر والهدى والضلالة إن أحسن وإن أساء.
فالبيت والمدرسة هما الأساس لتكوين الأجيال الصالحة وليست كل البيوت صالحة، فليكن المدرس أداة إصلاح كما أن بعض البيوت الصالحة يتأثَّر أولادهم بِمَن لم يكن صالحًا، فالكل راعٍ ومسؤول عن رعيته، فليعد للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.
قال العلامة ابن القيِّم في كتابه القيِّم “تحفة الودود بأحكام المولود”: مَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدًى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغارًا؛ فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبتِ، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني صغيرًا فأضعتك شيخًا… إلى أن قال: وممَّا يُحتَاج إليه غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه، فإنه ينشأ على ما عوَّده عليه المربي في صغره؛ فيصعب عليه تلافي ذلك في كبره، وتصير الأخلاق هيئات راسخة له، فلو تحرَّز منها غاية التحرُّز فضحته – ولا بُدَّ – يومًا ما، ولذلك تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشؤوا عليها، ولذلك يجب أن يجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل وسماع الفحش والبِدَع ومنطق السوء، فإنه إذا علق بسمعه عزَّ عليه مفارقته في الكبر، وعزَّ على وليِّه استنقاذه منه فتغيير العوائد من أصعب الأمور ويحتاج صاحبه إلى استجداد طبيعة ثانية، والخروج من حكم الطبيعة عَسِرٌ جدًّا، وينبغي لوليِّه أن يجنِّبه الكذب والخيانة أعظم ممَّا يجنبه السم الناقع؛ فإنه متى سهل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة وحرمه كلَّ خير، ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها ولا يريحه إلا بما تستجمُّ به نفسه وبدنه؛ فإن الكسل والبطالة لها عواقب سوء وندم، وللجد والتعب عواقب حميدة، إمَّا في الدنيا، وإمَّا في الآخرة، وإما فيهما، فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس، فالسيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب.
قال بعضهم: لا يُنَال العلم براحة الجسد، قال: ويعوِّده الانتباه آخر الليل فإنه وقت قسم الغنائم وتفريق الجوائز، فمستقلٌّ ومستكثِر ومحروم، فمَن اعتاد ذلك صغيرًا سهل عليه كبيرًا.
ويجنِّبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الأنام، فإن الخسارة في هذه الفضلات، وهي تفوِّت على العبد خير دنياه وآخرته.
ويجنِّبه مظانَّ الشهوات المتعلِّقة بالبطن والفرج غاية التجنُّب؛ فإن تمكينه من أسبابها والفسح له فيها يفسده فسادًا يعسر عليه بعده صلاحه، وكم من والد أفسد ولده وفلَذة كبده في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيته من قِبَل الآباء، وليحذر كلَّ الحذر من تمكينه ممَّا يزيل عقله من مسكر أو غيره، أو عشرة مَن يخشى فساده أو كلامه له، أو الأخذ من يده فإن في ذلك الهلاك كله، ومتى سهل عليه ذلك فقد سهل عليه الدياثة، ولا يدخل الجنة ديوث.
فما أفسد الأبناء مثل تغفُّل الآباء وإهمالهم واستسهالهم شرر النار بين الثياب، فأكثر الآباء يعتمدون مع الأولاد أعظم ممَّا يعتمده العدو الشديد العداوة مع عدوه وهم لا يشعرون، فكم من والد خسر الدنيا والآخرة وعرَّضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها، وإعراضهم عمَّا أوجبه الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح، حرمهم من الانتفاع بأولادهم، وحرم الأولاد خيرهم ونفعهم لهم، وهو من عقوبة الآباء[3].
انتهى كلام ابن القيِّم – رحمه الله – قال هذا في زمانه في القرن الثامن الهجري فكيف لو رأى جاهلية القرن العشرين، وما هي عليه شبابًا وشيوخًا من الانحلال والتدهور في الأخلاق وإضاعة أمر الله، ونبذ الحياء بارتكاب محارم الله وترك ما أوجب، إلا مَن عصمه الله، وأصبح الناس في هذا الوقت ثلاثة أقسام: قسم صالحون مصلحون وهداة مهتدون، وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، وقسم صالحون بأنفسهم ولكن أهملوا أولادهم وذويهم، وتركوا لهم الحبل على الغارب فتحمَّلوا أوزارهم، وقسم غير صالحين بل انحرفوا في أنفسهم عن الصراط المستقيم؛ فضلُّوا مَن يقتدي بهم فتحمَّلوا أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم.
فنسأل الله – تعالى – لنا وللمسلمين الهداية والتوفيق لما يحبُّ ويرضى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] رواه أبو يعلى في “مسنده”، والبيهقي في “السنن” والطبراني في “الكبير”، ورمَز السيوطي لصحته.
[2] رواه أحمد وأبو داود والحاكم، ورمز السيوطي لصحَّته.
[3] “تحفة الودود بأحكام المولود”: (ص 167، 175- 177).
Source link