حريٌّ بالمسلم أن يقف عند هذه القواعد، وينظر مكانها في نفسه، وأثرها في اعتقاده، وانعكاسها في دقيق حياته.
الحمد لله رب العالمين، خلق كل شيء فقدَّره تقديرًا، وذلَّت لأقداره نواصيَ الخليقة جبرًا وتخييرًا، إن ربي على صراط مستقيم، والصلاة والسلام على من بعثه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فالإيمان بالقضاء والقدر هو ركن الإيمان السادس، فلا يتم إيمانُ عبدٍ إلا به، ولا يطيب له عيشٌ في دنياه، ولا سعادة في أُخراه، إلا بتحقيقه والعمل بمقتضاه، والقدر هو سرُّ الله في خلقه[1]، لم يُطْلِع عليه أحدًا، ولم يجعل لأحد إليه مدخلًا، بل اختص به سبحانه علمًا وكتابةً، ومشيئةً وخلقًا؛ فلا يكون في الكون كائن إلا كما قضى وقدَّر، وأحداث الكون جميعًا ما هي إلا سلسلة من الأقدار المتضافرة بدِقِّها وجُلِّها، مُشكِّلةً مشهدَ الحاضر، وممهِّدةً لمشاهد المستقبل، بنسق مطرد دقيق، يوافق تقدير الله عز وجل، وما سبق في علمه الأزليِّ.
وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في بيان هذا المفهوم بتقسيم جامع مانع؛ حيث قال: “وتؤمن الفرقة الناجية – أهل السنة والجماعة – بالقدر خيرِهِ وشرِّهِ، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علِم ما الخَلْقُ عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا، وعلِمَ جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقاديرَ الخلق، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه، يكون في مواضع جملةً وتفصيلًا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء.
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء، إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبَرُّ والفاجر، والمصلِّي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم”[2].
وإن الناظر في آيات الذكر الحكيم لَيلحظ أهمية مفهوم القضاء والقدر، وما حظِيَ به من عناية فريدة تبرز أهميته في عقيدة المؤمن، وتأثيره في إدراكه لأقدار الله؛ حيث أورد الذكر الحكيم القواعد الضابطة لهذا المفهوم بأتمِّ أسلوب، وأبلغ عبارة، فكانت آياته الكريمة كافيةً وافيةً لبيان هذا الركن العظيم، وما يقتضيه من اعتقاد وعمل، وما يُجنى به من ثمار دنيوية وأخروية.
فحريٌّ بالمسلم أن يقف عند هذه القواعد، وينظر مكانها في نفسه، وأثرها في اعتقاده، وانعكاسها في دقيق حياته.
القاعدة الأولى: عِلْمُ الله سابق أزليٌّ محيط لِما وقع وما لم يقع:
فهو سابق لكل خَلْقٍ، قبل أن يخلق السماوات والأرض وما فيهن، وهو علم أزليٌّ أبديٌّ قديم، ليس بحادث ولا متجدِّد، فهو سبحانه لم يَزَلْ عالمًا، ولا يزال عالمًا، بما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون؛ قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، فهو سبحانه وتعالى محيطٌ في الزمان؛ فهو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، ومحيط في المكان؛ فهو الظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، وهو بكل شيء عليم؛ فعلمه شامل لكل صغير وكبير، وواقع وغائب، وممكن ومعدوم ومستحيل، وماضٍ وحاضر ومستقبل، فلا يُستثنى منه شيء أبدًا.
قال تبارك وتعالى آمِرًا نبيَّه في خطابه للأعراب: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16].
وأخبر سبحانه عن حوار موسى وفرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51، 52].
وقال تعالى في خطابه للمؤمنين: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وقال سبحانه في معرِض كلامه عن المشركين: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وقال جل شأنه في حديثه عن أهل النار: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
القاعدة الثانية: المقادير مكتوبة مفصَّلة في اللوح المحفوظ:
حيث كتب ما علِمَه سبحانه وتعالى من مقادير الخلق وأحوالهم، وكل ما هو كائن حتى قيام الساعة، كتابةً شاملةً مفصَّلة، لا يطرأ عليها تغيير ولا تبديل؛ قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53]، وقال عز شأنه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال جل جلاله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]؛ يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره: “ولقد ترك لهذه الآية جماعةٌ من الفضلاء الدواءَ في أمراضهم، فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلًا عليه، وقالوا: قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرَص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا”[3]، فإخباره سبحانه وتعالى بذلك فيه دعوة للنفوس إلى توكيل الأمر إليه، والثقة بتقديره، واللجوء إلى حوله وقوته دائمًا.
وقال سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59][4].
وقال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
وقال تعالى آمِرًا نبيَّه بالرد على الكافرين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].
القاعدة الثالثة: كل ما يجري في الكون بمشيئة الله:
فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته نافذة في خلقه دائمًا، ولا خروج لأحد عنها، فما من حادث في الكون إلا بمشيئته، ولا يكون في ملكوته إلا ما شاء، وأما مشيئة العبد، فهي مخلوقة محدودة، لا تخرج عن مشيئة الله بأي حال من الأحوال؛ قال جل جلاله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، وقال عز شأنه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].
وقال سبحانه وتعالى معلمًا نبيَّه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
وفي الذكر الحكيم مواضع كثيرة أخبر فيها المولى سبحانه وتعالى عن مشيئته ضمن سياقات متعددة، جمع بينها ابن القيم رحمه الله بقوله: “وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف المقدَّر الذي قدَّره وكتبه، وأنه لو شاء لَما عُصِيَ، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى، وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته.
وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه ربَّ العالمين، وكونه القيُّومَ القائم بتدبير عباده، فلا خلق، ولا رزق، ولا عطاء، ولا منع، ولا قبض، ولا بسط، ولا موت، ولا حياة، ولا إضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاوة، إلا من بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه؛ إذ لا مالك غيره، ولا مدبِّر سواه، ولا رب غيره”[5].
قال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، وقال تعالى شأنه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 36]، وقال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
القاعدة الرابعة: الله هو خالق كل شيء ومُوجِدُه:
فهو الخالق وحده، الوكيل على مخلوقاته؛ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62][6]، ولا خالق سواه، ولا يكون إلا ما خلقه وأوجده، ويشمل هذا جميع المخلوقات وإراداتها وأفعالها؛ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فهو الخالق سبحانه، والعباد فاعلون حقيقةً لا مجازًا، ونسبة العمل للعبد إنما هي نسبة لوجوده ووقعه منه، فهو مخلوق وقدرته مخلوقة، ينتج عنها العمل الذي اختاره هو – وأقدره الله عليه – من خير أو شرٍّ، فهو ليس مجبورًا على فعله، بل هو مختار له مسؤول عنه، يُحاسَب عليه يوم القيامة، وليس له أن يحتجَّ بسابق علم الله وقدره على عمله الذي اختاره بمحض إرادته، وهذا مما اتفق عليه سلف هذه الأمة وأئمتها[7].
قال تعالى شأنه: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
وقال جل جلاله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، وقال تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68].
القاعدة الخامسة: القدر سرُّ الله:
فهو سبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وهو الحاكم لا مُعقِّبَ لحكمه، أتقن صنع كل شيء وأحسن تقديره، وقدره هو سرُّه في خلقه، لم يُطلِع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلًا، وما خاض في القدر خائضٌ إلا ضلَّ وخُذِلَ، وما سلَّم له أحدٌ إلا هُدِيَ وسلِمَ.
قال تعالى شأنه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وقال جل جلاله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وقال عز وجل حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].
القاعدة السادسة: قَدَرُ الله خيرٌ محض لا يحتمل الشرَّ:
فالشرُّ لا يُنسَب إلى الله سبحانه وتعالى أبدًا، لا في ذاته ولا أسمائه، ولا صفاته ولا أفعاله، وقدره لا شرَّ فيه بوجه من الوجوه، فهو علم الله وكتابته، ومشيئته وخلقه، وكل ذلك خيرٌ محضٌ، وكمال من كل نقص، وإن كان ظاهرُ بعض القدر شرًّا، فهو في أصله ومبدَئِه خير[8]، وهذا مما أثنى به الله سبحانه وتعالى على نفسه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، فما كان شرًّا في محله، فهو من حيث صدوره عن الله خير محض؛ وذلك لصدوره عن حكمة بالغة أصلها خيرٌ، فكم من شرٍّ حادثٍ سعى بصاحبه إلى الخير! وكم من خير لم يُعرَف إلا بتمايزه عن الشرور!
قال جل جلاله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وقال تعالى شأنه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وقال عز وجل: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
القاعدة السابعة: الإيمان بالقدر سبيل الهداية:
قال سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، فمن آمن به سبحانه، وعلِمَ أن ما أصابه إنما هو مما سبق به علمه، واقتضته حكمته، ونفذت به مشيئته، هداه ورزقه الثبات والطمأنينة، وحسن ثواب الدنيا والآخرة، كما رُوِيَ عن جمع من السلف في تفسير هذه الآية الكريمة قولهم: “هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيُسلِّم لها ويرضى”.
وقال تبارك وتعالى واصفًا حال المؤمنين الصابرين في تقبُّلِهم لمصائب الدنيا وعظيم ثوابه لهم: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157]، وقال جل جلاله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175].
اللهم اهدِنا فيمن هديتَ، وعافِنا فيمن عافيتَ، وتولَّنا فيمن توليتَ، وبارك لنا فيما أعطيتَ، وقِنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضَى عليك، وإنه لا يَذِلُّ من واليتَ، ولا يعِزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت.
[1] كما في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: “وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك مَلَكٌ مقرَّب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامِهِ، ونهاهم عن مرامِهِ؛ كما قال تعالى في كتابه: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فمن سأل: لِمَ فَعَلَ؟ فقد ردَّ حكم الكتاب، ومن ردَّ حكم الكتاب، كان من الكافرين”. [2] مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ج: 3، ص: 148 (بتصرف). [3] الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتب المصرية، ج: 17، ص: 258. [4] روى البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفس بأيِّ أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)). [5] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب، ابن قيم الجوزية، دار عطاءات العلم، ج: 1، ص: 151-152. [6] يقول العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره: “أن الله تعالى أخبر عن نفسه الكريمة أنه خالق لجميع العالم العلوي والسفلي، وأنه على كل شيء وكيل، والوكالة التامة لا بد فيها من علم الوكيل، بما كان وكيلًا عليه، وإحاطته بتفاصيله، ومن قدرة تامة على ما هو وكيل عليه، ليتمكن من التصرف فيه، ومن حفظ لما هو وكيل عليه، ومن حكمة، ومعرفة بوجوه التصرفات، ليصرفها ويدبرها على ما هو الأليق، فلا تتم الوكالة إلا بذلك كله، فما نقص من ذلك، فهو نقص فيها”. [7] يقول ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: “والتحقيق أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة دينية شرعية، وإرادة كونية قدرية؛ فالأول كقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، وقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [النساء: 26] إلى قوله: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 27]، فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا وهي الإرادة الدينية، وإليه الإشارة بقوله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
وأما الإرادة الكونية القدرية، فمثل قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125]، ومثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والمشيئة، لا يخرج عنها خير ولا شرٌّ، ولا عُرْف ولا نُكْر، وهذه الإرادة والمشيئة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي”.
[8] يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: “ليس في القدر شرٌّ، وإنما الشرُّ في المقدور، فمن المعروف أن الناس تصيبهم المصائب وتنالهم الخيرات، فالخيرات خير، والمصائب شر، لكن الشر ليس في فعل الله تعالى، يعني ليس فعل الله وتقديره شرًّا، الشر في مفعولات الله لا في فعله، والله تعالى لم يقدِّر هذا الشر إلا لخيرٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [الروم: 41]، هذا بيان سبب الفساد، وأما الحكمة فقال: ﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، إذًا هذه مصائب مآلها الخير، فصار الشر لا يُضاف إلى الرب، ولكن يُضاف إلى المفعولات والمخلوقات، مع أن هذه المفعولات والمخلوقات شرٌّ من وجه، وخير من وجه آخر، فتكون شرًّا بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية، ولكنها خير بما يحصل فيها من العاقبة الحميدة؛ ﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]”.______________________________________________
الكاتب: سائد بن جمال دياربكرلي
Source link