منذ حوالي ساعة
” إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم “
كم هو عجيب أمر الناس! يقدّسون الصورة كأنّها هي الإنسان، ويتنافسون في المال كأنّه هو معيار الخلود. وربما إذا دخلت المجالس رأيت النظر يسبق إلى الثياب، والهيئة، والوجه وقبل ذلك النسب والمال، ولا يلتفت أحد إلى ما وراء الأستار، إلى القلب الذي يضخّ الحياة، أو إلى العمل الذي يرفع صاحبه أو يضعه. فجاء هذا الحديث النبوي ليقلب الموازين، ويهدم الأوثان، ويصنع في النفوس ثورة على الزيف، معلنًا أن القيمة ليست في الخارج الذي يزول، وإنما في الداخل الذي يخلد.
حين قال النبي ﷺ: « ” إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم “» ، كان يخاطب قومًا ربما فيهم من لا يعرفون إلا المظاهر، يفتخرون بالأنساب، ويزنون الرجال بالذهب والفضة، ويجعلون القوة في سيفٍ يلمع أو فرسٍ يركض. فجاء هذا القول كالصاعقة، يُسقط كل الاعتبارات الجوفاء، ويُعلي شأن القلب الذي لا يراه أحد إلا الله. فالقلب هو موضع الإيمان وموطن الإخلاص، وهو الساحة التي تُدار فيها المعارك بين الهوى والهدى، فإن صلح صلح الجسد كله، وإن فسد فسد الجسد كله.
كثير من الناس يزيّنون الصور، يلمّعون الوجوه، ويخفون ما في الصدور. لكن الله عز وجل لا تخدعه الأصباغ ولا تغرّه الألوان. ينظر إلى القلوب، يزنها بميزان التقوى، ويقيسها بمقدار الصدق فيها. كم من وجهٍ يبرق في الدنيا وهو مظلم عند الله، وكم من ثوبٍ بالٍ يخفي قلبًا أبيض أنقى من الغمام. ألم يقل ربنا سبحانه {” إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُم”} [الحجرات: 13]. فالمعيار في كتاب الله هو التقوى، لا الحُسن ولا الغنى ولا الجاه.
إنك لترى الرجل في الأسواق يُرفع شأنه لأنه يملك المال، فإذا نطق سكت القوم، وإذا مشى فتحت له الأبواب. ولكنّ الله قد لا يساوي ذلك المال عنده جناح بعوضة، بل قد يجعله وبالًا على صاحبه إن لم يحسن استعماله. أليس قارون الذي خسفت به الأرض كان من أغنى أهل زمانه؟! وما أغنى عنه ماله حين أظلم قلبه بالكبرياء. وهنا نفهم أن “الأعمال” التي ينظر إليها الله هي ثمار القلب، فإن امتلأ القلب محبةً لله، صدرت الأعمال زكية، وإن امتلأ بالكبر والحسد، صدرت الأعمال موبقة.
وللقلب مع الله شأن عجيب. إنك قد ترى رجلًا لا يملك شيئًا من زخارف الدنيا، يعمل في زاويةٍ لا يلتفت إليها أحد، ولكنه عند الله أعظم من ملوك الأرض. فقد مرّ رجل فقير على النبي ﷺ، فقال لأصحابه: « ” مَرَّ رَجُلٌ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ما رَأْيُكَ في هذا فَقالَ: رَجُلٌ مِن أشْرَافِ النَّاسِ، هذا واللَّهِ حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ، قالَ: فَسَكَتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما رَأْيُكَ في هذا فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْمع لِقَوْلِهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا “» فالقيمة الحقيقية ليست في هيئة البدن ولا في زينة المتاع، وإنما في جوهر الروح وصفاء الضمير في قلب امتلئ بالإيمان والمحبة لله ورسوله.
إن الحديث الشريف يربّي فينا ثقافة الميزان الصحيح فلا نعجب بصورٍ تُزيّفها العدسات، ولا بأموالٍ تُحصيها الأرقام، بل نبحث عن القلب: «أهو عامر بذكر الله أم خاوي؟ وعن العمل: أهو خالص لله أم مشوب بالرياء؟ وقد قال الله في الحديث القدسي” أنا أغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّركِ ، مَنْ عمِلَ عملًا أشركَ فيه معِيَ تركتُهُ وشِركَهُ”» فالإخلاص سرّ القبول، والقبول هو الغاية التي ينشدها المؤمن.
وقد يتساءل بعضهم: ألسنا بحاجة إلى المال والصورة الحسنة؟ بلى، ولكنها وسائل لا غايات. المال نعمة إذا كان في يد التقيّ، يسعف به الضعفاء ويقيم به الحق. والصورة الحسنة ستر من الله، ولكن لا قيمة لها إن لم تكن على قلبٍ تائبٍ نقي. فكم من جميلٍ أفسدته الذنوب، وكم من ثريٍّ أهلكه البطر. إنما المطلوب أن يكون المال في اليد لا في القلب.
وإذا تأملنا حياة الصحابة رضوان الله عليهم، وجدنا الحديث مطبقًا حيًّا في سيرتهم. فقد كان بلال بن رباح عبدًا حبشيًّا لا يملك من الدنيا شيئًا، ولكنه عند الله سيدٌ مؤذّنٌ وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة. وكان أبو بكر رضي الله عنه في قلبه من الصدق والإيمان ما رفعه فوق العالمين. فالله لا يرفع الناس بألوانهم ولا بأموالهم، وإنما بما في قلوبهم من نور وبما في أعمالهم من صدق.
هذا الحديث ليس مجرد تذكرة، بل هو دستور حياة، يعلّمنا أن قيمة الإنسان ليست فيما يملك، ولا فيما يبدو، وإنما فيما يَحمل في قلبه من صدق، وما يُترجم على جوارحه من عمل. فإذا أردنا أن نرتفع في ميزان الله فلنطهِّر القلوب من الغلّ والحسد وقبل ذلك من الشرك كبيره وصغيره، ولنملأها بالإيمان والرحمة، ولنجعل الأعمال مرآة لذلك الإيمان. وحينها فقط نكون ممن نظر الله إلى قلوبهم فرضي، وألهم جوارحهم فعملت، وما ضرهم إن كانوا في الأرض مغمورين، وفي السماء مذكورين.
ودعونا نقف مع بعض الفوائد التربوية والإيمانية من هذا الحديث العظيم:
- تهذيب ميزان القيم :الحديث يعلّمنا أن المعيار الحق ليس الصورة ولا المال، بل القلب والعمل. فهو يحرّرنا من أوهام المجتمع الذي يرفع الناس بالمظاهر، ويضعهم بالباطن، ويربطنا بميزان الله الذي لا يضل ولا يزيغ.
- إصلاح القلب أصل كل إصلاح: إذ دلّ الحديث على أن الله ينظر إلى القلوب أولًا، فهي المنطلق والقاعدة. فصلاح الظاهر ثمرة صلاح الباطن، ومن أراد النجاة فليعتنِ بالقلب: إخلاصًا، وتوبةً، ومحبةً لله.
- قيمة الإخلاص في العمل: الأعمال لا تُقبل بكثرتها ولا بجمال صورتها، بل بصدق نيتها. فالحديث يرسّخ مبدأ الإخلاص، ويجعل المؤمن يحاسب نفسه قبل أن يعمل: أهو لله أم لغيره والعياذ بالله؟
- التحذير من الرياء: إذا كان الله لا ينظر إلى الصور، فلا قيمة للتزيّن أمام الخلق مع فساد الباطن. فالرياء صورة بلا روح، يثني عليها الناس في الدنيا، وتذهب هباءً منثورًا عند الله يوم القيامة.
- تعزية الفقراء والضعفاء: الحديث يرفع معنويات من لا يملكون مالًا ولا جاهًا، فيبشّرهم أن قيمتهم ليست بما فقدوا، بل بما يحملون من إيمان وعمل صالح. فلا يتحسر الفقير على دنياه إذا كان عند الله سليم القلب.
- تقويم نظرة المسلم للآخرين: فالمسلم لا يحكم على الناس بالمظهر ولا بالغنى، وإنما يبحث عن تقواهم وصلاح قلوبهم. وبذلك يبتعد عن الغرور بالصور والألقاب، ويقتدي بقول النبي ﷺ “التقوى ها هنا” وأشار إلى صدره.
- التربية على العمل الصالح: الحديث يربّي المسلم على أن الإيمان لا يكتمل بالباطن وحده، بل لا بد من عمل يُصدّق القلب. فالقلوب الصالحة تثمر أعمالًا صالحة، وهذا هو الميزان الذي يرفع العبد عند الله.
فيا عباد الله، ما أعظم هذا الحديث وما أبلغه! إنه يقتلع جذور الزيف من القلوب، ويغرس فيها شجرةً طيبةً أصلها ثابت وفرعها في السماء، يذكّرنا أن الله جل جلاله لا تستهويه الصور ولا تبهره الألوان، وإنما ينظر إلى السرائر ويزن البواطن بميزان التقوى، فيرفع بها أقوامًا ويضع آخرين. فما قيمة وجه يسطع جماله وقلبه غارق في الأهواء؟ وما جدوى ثروة تُحصى أرقامها وصاحبها مفلس عند الله؟! إن الفوز كل الفوز أن تنجو بصفاء قلبك، وأن تُعرض أعمالك على ربك فيقبلها بفضله وكرمه. فهلمّوا –رحمكم الله– إلى قلوبكم فطهّروها من دنس الرياء والذنوب المعاضي، وزيّنوها بمحبّة الله ورسوله، وأيقنوا أن ما عند الناس يزول، وما عند الله باقٍ، ومن تطلّع إلى نظر الخلق أضاع عمره في السراب، ومن كان همه نظر الخالق أُكْرِم في الأرض وارتفع في السماء، {﴿وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾} [الزخرف: 35].
Source link