ذلكم الحدث التاريخي العظيم، الذي قلب وجه العالم، وغير مجرى التاريخ، من حياة الصد والعناد، والوقوف في وجه الدعوة الإسلامية المباركة، إلى فسحة الانطلاق ببشائر الإسلام، وتكسير القيود التي كانت تحول دون ذلك.
تنتهي السنة الهجرية، فيتذكر المسلمون ذلكم الحدث التاريخي العظيم، الذي قلب وجه العالم، وغير مجرى التاريخ، من حياة الصد والعناد، والوقوف في وجه الدعوة الإسلامية المباركة، إلى فسحة الانطلاق ببشائر الإسلام، وتكسير القيود التي كانت تحول دون ذلك.
إنه حدث الهجرة النبوية، الذي كان سنة في معظم أنبياء الله تعالى. قال تعالى في حق إبراهيم – عليه السلام -: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِين} . وقال تعالى في حق لوط – عليه السلام -: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
وقال تعالى في حق شعيب – عليه السلام -: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88]. قال الشيخ الخضري – وهو يتحدث عن هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم -: وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا – صلى الله عليه وسلم – سُنَّةُ إخوانه من الأنبياء من قبله، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته، فهاجر عنها، من إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه.
لقد عانى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أذى قريش الشيء الكثير، ورأى أن أرض مكة – بعد مرور ثلاث عشرة سنة – لم تؤت ثمارها المرجوة، بعدما رفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، بل أُقفلت في وجهه الأبواب، وعاش الاضطهاد والنَّكال، وقُذِف بالحجارة، وأُهين هو وأصحابُه، وتنامت عداوة قريش له، حتى إنهم دبروا المكائد والمؤامرات للقضاء عليه وعلى دعوته. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
قال جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -: مكَثَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِى الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ: «مَنْ يُؤوينِى، مَنْ يَنْصُرُنِى حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّى وَلَهُ الْجَنَّةُ» ؟، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ، فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلاَمَ قُرَيْشٍ لاَ يَفْتِنُكَ. وَيَمْشِى بَيْنَ رِحَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ (رواه أحمد وهو في الصحيحة) .
وفي رواية عند ابن ماجة: [فأخذ يَعْرض نفسه على الناس في الموسم ويقول: «ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي» ].
آنذاك قرر النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو المسدد بالوحي – أن يتحول إلى المدينة، وخطط لهذا الأمر تخطيطا محكما، تحرسه عناية الله تعالى وجميل تدبيره. ودار هذا التخطيط على اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب وحسن توظيف الطاقات.
وتجلى ذلك في:
♦ اختيار الصديق المناسب، القادر على إنجاح العملية، وكان أبا بكر الصديق – رضي الله عنه -، وهو دور الكبار.
♦ تجهيز الوسائل الضرورية قبل الموعد بزمن كاف، لتفادي السرعة والارتباك، الذين قد يحصلا لحظة الهجرة. ولذلك جهزت الراحلة قبل الموعد بأربعة أشهر، وبسرية تامة.
♦ إتقان دور المخادعة والمخاتلة الحربية، لضمان تحقيق المهمة بغير مفاجآت، كتكليف علي بن أبي طالب بالنوم في فراش النبي – صلى الله عليه وسلم -، تمويها على المشركين وتخذيلا لهم، وهذا دور الفتيان الأقوياء.
♦ إشراك النساء في إنجاح الهجرة بما يناسب دورهن. تقول عائشة – رضي الله عنها – متحدثة عن نفسها وأختها أسماء: فجهزناهما (أي: الراحلتان) أَحَثَّ الجَهاز (أسرعه. والجَهاز: ما يحتاج إليه في السفر)، وصنعنا لهما سُفرة (الزاد الذي يصنع للمسافر) في جِراب (وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه)، فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين البخاري.
♦ تخصيص حيز للأطفال لإبراز دورهم في هذا الحدث العظيم، ويمثله دور عبد الله بن أبي بكر، الذي كان يتقصى أخبار قريش، وينقلها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه وهما في غار ثور.
♦ ومن جميل التخطيط، تكليف الراعي عامر بن فهيرة أن يسلك بقطيعه طريق الغار، ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي النبي – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه من لبن غنمه.
♦ ومن كمال التخطيط أن اتخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – عبد الله بن أريقط دليلا عارفا بالطريق ولو كان مشركا، مادام مؤتمنا، متقنا لعمله، ولذلك أرشدهم – بمهارته – إلى اتخاذ طريق غير الطريق المعهودة.
♦ وتبقى أعظم محطة في هذا التخطيط البارع، تهييء التربة الصالحة في المدينة النبوية، لاستقبال النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فكان لا بد من اختيار عنصر يجمع بين الكفاءة العلمية، والشجاعة النفسية، والجرأة الدعوية، والفطانة التواصلية، بحيث يستطيع أن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت المدينة، على أن تتم هذه العملية في غضون سنة.
فاختار النبي – صلى الله عليه وسلم – لهذه المهمة الجريئة مصعب بن عمير، الذي يعتبر نموذجاً لتربية الإسلام للشباب المترفين المنعمين من أبناء الطبقات الغنية.
لقد كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأكثرهم ترفا ورخاء، وكانت له أم كثيرة المال، تكسوه أرق الثياب، وتلبسه الحضرمي من النعال، وتضمخه بأثمن العطور، حتى كان أعطر أهل مكة. بل كان إذا نام، وضعت أمه عند رأسه قعبا من الحَيْس (قدحا من التمر والسمن والأقط – اللبن المجفف -)، فإذا استيقظ من نومه أكل. فكيف وقع عليه الاختيار لنشر الدعوة الإسلامية في المدينة تمهيدا للهجرة النبوية؟، وكيف سيحظي بأن ينزل فيه قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]؟.
لما علم مصعب بن عمير بوجود الرسول – صلى الله عليه وسلم – مستخفيا بدينه في دار الأرقم بن أبي الأرقم، دخل عليه، فأسلم وصدّق به، ثم كتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، حتى بصر به عثمان بن طلحة وهو يصلي، فأخبر أمه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوساً حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى.
يقول سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -: لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديداً، حتى لقد رأيت جلده يتحشِّف (يتطاير) تحشف جلد الحية عنها، حتى إن كنا لنعرضه على قتبنا، فنحمله مما به من الجهد.
وعَنْ خَبَّابٍ – رضي الله عنه – قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – نَبْتَغِى وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا (لم ينقص من ثوابه شيء)، كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ نَمِرَةً، كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غُطِّي بِهَا رِجْلاَهُ، خَرَجَ رَأْسُهُ. فَقَالَ لَنَا النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم -: «غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلِهِ الإِذْخِرَ» . قال: وَمِنَّا مَنْ قَدْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدُبُهَا (متفق عليه) .
هذا الرجل هو الذي سيتحمل مسؤولية فتح قلوب أهل المدينة، وسيكون ما معه من القرآن الكريم، والصوت الندي بقراءته أعظم الأسلحة في إنجاز المهمة.
روى البخاري عَنِ الْبَرَاءِ – رضي الله عنه – قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلاَ يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ البخاري. ولذلك كان مصعب يلقب بالمقرئ.
لقد تضافرت جهود مصعب بن عمير مع جهود أسعد بن زرارة، الذي كان أعرف الناس بأهل المدينة وطبائعهم، فانطلقت الدعوة هناك تطرق الأبواب، وتدخل البيوت، حتى لم يبق بيت إلا وفيه مسلم.
ولقد أسلم على يدي مصعب بن عمير سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، سيدا بني عبد الأشهل، حتى إن سعد بن معاذ لما شرح الله صدره للإسلام رجع إلى قومه، فقال لهم: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟. قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة.
وعلى رأس السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية، سيرجع مصعب بن عمير إلى مكة، ومعه ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، ليبايعوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بيعة الرضوان، وليتهلل وجه رسول الله بهذا الإنجاز البديع، وهذا التخطيط الدقيق، الذي جعل من المدينة النبوية أرض الدين والدولة، منها سيشع نور الإسلام على الكون كله.
_______________________________________________________
الكاتب: د. محمد ويلالي
Source link