إن من تمام العقل وسلامة الديانة أن يفتش المربي أبًا كان أو معلمًا عن هدي النبي في التربية ليلزم غرسه، ويقتفي أثره، ويستن بسنته، فيطبق ما تعَلَّمه؛ تقديرًا للمسؤولية، وطلبًا في الثواب من ربه.
إن نعم الله على عباده وآلاءه متنوعة، وحق النعمة شكرها، ومن ذلك نعمة الولد، فالأولاد ذكورًا وإناثًا زينة الحياة الدنيا كما أخبر ربنا تبارك تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]، فبالأولاد تسلو النفوس، يظهر طعم الحياة، فسماع ضحكاتهم يغسل الفؤاد من الهموم، والآذان تطرب للذيذ خطابهم، والقلب قبل اليدين يحتضنهم، فمسكنهم سويداء القلب، أما رأيت قلب أب يطرب لسماع ولده يرتل الفاتحة، يتنفس بنفسه، ويتلو ويردد معه، يرقب صلاحه وذخره وبره فيعمل بالسبب، ويسأل عن أنجع أسلوب وأحسن طريقة للتربية، فيختار له المحاضن التربوية الملائمة والصحية الصالحة المعينة، وقبل ذلك وبعده يرفع يديه بالدعاء له، رب ارحم والدينا كما ربَّوْنا صِغارًا.
عباد الله، إن من أعظم أسباب التوفيق للتربية الصالحة السعي في إصلاح النفس، يقول تبارك وتعالى عن سبب حفظ مال اليتيم في سورة الكهف {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
وأوصى تبارك وتعالى لمن خاف وخشي على ولده بلزوم التقوى، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].
عباد الله، إن من تمام العقل وسلامة الديانة أن يفتش المربي أبًا كان أو معلمًا عن هدي النبي في التربية ليلزم غرسه، ويقتفي أثره، ويستن بسنته، فيطبق ما تعَلَّمه؛ تقديرًا للمسؤولية، وطلبًا في الثواب من ربه، والتربية ليست سهلة إلا على مَنْ سَهَّلَها الله عليه، يقول أحد السلف: إن من الذنوب ما لا يكفرها إلا الهم بالأولاد، أوَ لم تَرَ موعود ربِّ العالمين لمن ربَّى البنات؟ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتُلي بشيء من البنات فصبر عليهن كن له حجابًا من النار».
عباد الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّى أزواجه وأولاده وصحبه خير تربية، أنتجت جيلًا فريدًا قَلَّ نظيرُه، فما هدي رسولنا في التربية؟ فرسولنا عليه الصلاة والسلام بعثه الله معلمًا ومزكيًا ومبشرًا ونذيرًا، وقد أوتي الكمال البشري، وعصم من الخطأ في تبليغ الدعوة، ولقد مَرَّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمر بها مُرَبٍّ أو معلم.
فلقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم الفقر والغنى، والأمن والخوف، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة.
ولقد عاش اليتم والعزوبة والزوجية والأبوة، ولقد رعى الغنم ثم قبل ذلك وبعده هو قدوتنا الذي أمرنا بامتثال أمره، والبُعْد عن نهيه، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] أو لم يكف أن الله يتكلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
عباد الله، يا كل مُربٍّ أبًا كنت أو معلمًا، يا كل من يحمل هَمَّ أمته، جزاك الله عن أمة الإسلام خير الجزاء، ورفع الله ذكرك، وأصلح لك ذريتك، وحقَّق لك الأمنيات، وأفاض ربُّك عليك من الأعطيات، استمع وأنصت لشيء من هدي حبيبك صلى الله عليه وسلم في تربيته.
1- قبول المتربي على أي حال والحفاوة به والترحيب وحسن الاستقبال:
أول الطرق للدخول إلى قلبه فيقبل بعد ذلك التوجيه والإرشاد.
فأحسن بذر الحب وتعاهَدَه يطب لك الثمر، فلقد جاء صفوان بن عسال رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بطالب العلم، إن طالب العلم تحفُّه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضها على بعض حتى يبلغوا السماء من محبتهم لما يطلب»؛ (رواه ابن عبدالبر).
وكان يحتفي بالوفود، ويحسن استقبالهم، ويتخذ لذلك لباسًا خاصًّا، وخطيبًا يخطب بين يديه إشعارًا منه بمزيد من الاهتمام بهم، ولما أتى وفد عبدالقيس رحَّب بهم صلى الله عليه وسلم «مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى»؛ (رواه البخاري).
إن كسب قلوب الطلاب والأولاد وإظهار حبهم والاعتزاز بهم يُعزِّز الانتماء لمُربِّيهم، وهو الجسر الذي عن طريقه يحسن التوجيه.
هل وجدت أحسن من خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته؟! فعن أبي هريرة رضي الله عنه «إنما أنا منكم بمنزلة الوالد أعلمكم…».
2- ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التربية: الثناء والتشجيع فهو وقود النجاح الموصل بعد توفيق الله للفلاح في الدنيا والآخرة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث»؛ (رواه البخاري).
ومن ذلك ما جاء عن حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ابعث لنا رجلًا أمينًا، فقال: «لأبعثن إليكم رجلًا أمينًا حق أمين حق أمين»، فاستشرف لها الناس قال: فبعث إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح، وفي رواية فأخذ بيد أبي عبيدة، فقال: «هذا أمين هذه الأمة».
3- ومن هديه صلى الله عليه وسلم في التربية: التبسط وإزالة الحواجز مع حفظ مقام الاحترام الكامل؛ لأن هذا يجعل المتربي قريبًا من مربِّيه، فيسأل عمَّا أشكل عليه وأهَمَّه، فلقد كان الرجل يدخل على مجلس فيسأل: أيكم محمد؟! لم يتمايز بمجلس ولا هيئة، ويهون على من يهابه هيبة شديدة.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى رجل، فكلمه فجعل ترعد فرائصه، فقال له: «هوِّن عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد».
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحب صحابته في السفر والحضر، وكان يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويغزو ويواسي بالقليل والكثير، كما في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ رواه أحمد، وصحح إسناده أحمد شاكر.
4- ومن هديه عليه السلام في التربية أنه كان يبدأ بنفسه بفعل ما يأمر الناس به، فأمره لهم ليس انتقاصًا من قدرهم، بل هو معهم، وهذا الفعل له سحر في القلوب، وتحفيز للعمل، وطرد للكسل، ففي الحروب كان في أوائل الصفوف، وفي الخندق يحفر معهم.
5- ومن أعظم الهدي إشعار المتربي بقيمته وقدره؛ فرسول الله يتفقد أصحابه ويتفقد أحوالهم وعبادتهم وحاجاتهم.
فالسؤال عن الأحوال مشعر بالاهتمام، فحين تغيَّب كعب بن مالك عن تبوك سأل عنه، وحين غاب ثابت بن قيس الخطيب الجهوري الصوت سأل عنه، وكان يتفقد أصحابه في طول الجيش وعرضه حتى رأى جابر بن عبدالله مع جمله الضعيف متأخرًا عن القوم فدعا له فلحق بالركب.
ومن هدي رسول الله في تربيته: التربية بالقصة، فللقصص أثر بالغ في النفوس، وقل لتلاميذك أن يجعلوا أنفسهم مكان صاحب القصة، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين آواهم الغار، ففيه تحفيز كبير لبر الوالدين، وحفظ العرض، والأمانة.
والتربية بالحدث: فهو من أنجع الأساليب وأقواها تأثيرًا، فلا تفوِّت فرصة مع من تحت يدك إلا واستثمرها، فهو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن جرير بن عبدالله البجلي قال: كنا جلوسًا ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا»؛ (رواه البخاري).
ومن الهدي النبوي التربية بالإقناع فقال لمن ولد له غلام أسود: «هل لك من إبل»؟، قال: نعم، قال: «ما لونها»، قال: «حمر»، قال: «هل فيها من أوْرَق»؟، قال: نعم، قال: «فأنَّى ذلك»؟، قال: نزعه عرق، قال: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق».
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم استخدام الحوار والنقاش، ومن هديه الإغلاظ في العقوبة حين سمع الرجل الذي فتن الناس عن صلاتهم فقال: «إن منكم منقرين، مَن صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة»، وربما استخدم في تربيته الهجر إن كان مثل هذا الأسلوب ينفع عباد الله، هذا غيض من فيض، وقطرة في بحر، علَّ الله أن ينفع بها قائلها وسامعها، والتنوع في هذه الأساليب محل اجتهاد ونظر للمربي، والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
أيها الفضلاء، رسولنا عليه الصلاة والسلام يبذل كل غالٍ ونفيس، ويجتهد غاية الاجتهاد لإيصال الخير لكم، يفرح بإيمانكم، ويشفع لكم، لقد رَبَّاكم، وحرص عليكم وأحَبَّكم، فما هذا التقصير في حقِّه، فاذكرا سيرته في مجالسكم، وأكثروا من الصلاة عليه في صباحكم ومساكم، لا سيَّما في ليلة الجمعة ويومها، فمن أعظم ما تتقربون به إلى الله في جمعتكم كثرة صلاتكم وسلامكم على حبيبكم استجابة لأمر ربِّكم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
_______________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
Source link