الحكيم لا يبتليك إلا لحكمة

هل فكرت يومًا كيف يسير هذا الكون الواسع، وهذا العالم السفلي وفوقنا العالم العلوي بانتظام بديع منذ أن خلق الله هذا الكون وأوجد هذا الإنسان؟

هل فكرت يومًا كيف يسير هذا الكون الواسع، وهذا العالم السفلي وفوقنا العالم العلوي بانتظام بديع منذ أن خلق الله هذا الكون وأوجد هذا الإنسان؟

انظر إلى مظاهر هذا الكون من شمس تشرق بهدوء، وقمر يطل في تألُّق ويختفي، وبحار ومحيطات فيها مَدٌّ وجزرٌ، يعيش في جوفها ملايين الكائنات البحرية تحيا بانسجام، هل قلَّبت طرفك في الغابات والأشجار وتنوعها ومنافعها وحسن منظرها؟ عد إلى ذاتك، وغُصْ في أعماقك، وتذكر أجهزة جسمك المختلفة؛ جهاز للهضم، وآخر للإخراج، وثالث للتنفُّس، ورابع للأعصاب، وأنسجة وعروق ودماء، وقلب ينبض بالدماء وتسري في العروق دون أن نشعر وكل عضو له هدف معين، إلى آخر ما هنالك من مشاهد تحكي قصة الإتقان والإحكام والضبط المتناهي والإحاطة الكاملة بكل دقائق الكون، ويمكنك أن توجز كل هذه المعاني في اسم الله الحكيم، والحكيم هو الحكم الذي يضع الشيء المناسب بالقَدر وفي الوقت المناسب وفي المكان المناسب.

 

كل شيء لحكمة:

تأمل معي بعض أفعال الحكيم في خلق الإنسان؛ فمثلًا لو تساءل: أحدٌ لماذا خلق الله عينين؟ لمَ لمْ تكن عينًا واحدة؟! لأنه بالعين الواحدة ترى الطول والعرض، ترى السطوح ولا ترى الحجوم، أما بالعينين فترى البُعْد الثالث، ترى العمق، فمن حكمة الله عز وجل أنه جعل لنا عينين.

 

ولو كانت لنا أُذُنٌ واحدة لما كنا نعرف جهة الصوت، أما بالأذنين فيأتي الصوت من جهة اليمين، فيدخل إلى الأذن اليمنى قبل اليسرى بفارق يساوي 1 /1620 جزءًا من الثانية؛ فتدرك جهة الصوت.

 

و”الحكيم” لم يجعل في أظافرك أعصابَ حسٍّ، ولو جعل فيها أعصاب حسٍّ لاضطررت إلى عملية جراحية في كل مرة تريد فيها قص أظفارك.

 

و”الحكيم” جعل لك قلبًا ينبض ذاتيًّا، ولو ترك النبض إليك فالنوم يعني الموت، تنام مرتاحًا وقلبك ينبض بتلقائية ودون أن يسبب لك أي إزعاج أو اضطراب.

 

داخل قلب الإنسان بين “الأذينين” وهو في بطن أمه ثَقْب كَشَفَه عالم فرنسي اسمه “بوتال”، سمي هذا الثَّقْب ثَقْب بوتال، وعند الولادة تأتي جُلْطة فتغلق هذا الثَّقْب، من ساق هذه الجُلْطة حتى أغلقت هذا الثَّقْب؟! ولمجرد أن يغلق هذا الثَّقْب يبكي الطفل مباشرةً؛ لأنه استنشق الهواء، وهذا الثَّقْب لو لم يغلق يُصاب الطفل بمرض اسمه “داء الزرق”، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه!

 

الفم ليس فيه شعر، لكن الأنف فيه شعر، الشعر بالأنف ليصطاد المواد العالقة بالهواء، أما لو كان الشعر ينبت في الفم لكان ذلك أكبر مزعجات الحياة.

 

هناك هرمون التجلُّط يفرزه الكبد، وهرمون التمييع، من إفراز الهرمونين معًا! ومن ثبات النسبة بينهما ثباتًا دقيقًا تنشأ ميوعة الدم وسيولته، وقد قيل: لو زاد هرمون التجلط على الحد الذي رسمه الله عز وجل لأصبح الدم كالوحل في الأوردة والشرايين، ولمات الإنسان، ولو زادت نسبة هرمون التمييع على حدها الذي رسمه الله عز وجل لنزف دم الإنسان كله من جرح صغير.

 

وهل سمعت عن قياس ضغط العين؟ ما ضغط العين؟ إنه شيء متقن، إذ بالعين سائل، وهذا السائل لا بد أن يتجدد، فكيف يتجدد؟ يصب عليه مورد وله فتحة في أسفله، فإذا شدت هذه الفتحة تحتقن العين، ويزداد ضغطها فتضيق لمعة الشرايين المغذية لها، وأطباء العيون يقيسون ضغط العين. هذه لمحات يسيرة جدًّا جدًّا من خلقنا نحن البشر، واسألوا الأطباء يحدثوكم بالعجائب التي تأخذ بالألباب، فسبحان الله الذي أحسن كل شيء خلقه!

 

يبتليك ليخرج أجمل ما فيك:

عُدْ إلى شريط ذكرياتك ومواقفك في الحياة، ألا تتذكر عشرات بل مئات المواقف التي كنا نقول فيها: ليت الأمر كان كذا وكذا مما ظننا أن فيه الخير والنفع لنا، ثم لم تمض أيامٌ أو شهور حتى عرفنا أنَّ ما شاءه “الحكيم” سبحانه وأراده وقدره هو محض الخير والمنفعة، لا ما ظنناه وتمنيناه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وهنا يجب أن نتيقَّن تمامًا بأن إرادة الحكيم سبحانه متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمة الله متعلقة بالخير المطلق؛ أي: إن ما يريده الله ويريد وقوعه مما يسرنا أو يحزننا فيه حكمة بالغة ليس من الضروري أن تدركها عقولنا أو يبلغها اجتهادنا، إذا عرفت هذا فعليك أن تعرف أن الذي ابتلاك بمصيبة المرض هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليك البلاء ليهلكك به، ولا ليُعذِّبك به، ولا ليجتاحك، وإنما افتقدك به ليمتحن صبرك ورضاك عنه وإيمانك، وليسمع تضرُّعك وابتهالك، وليراك طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا قصص الشكوى إليه.

 

إنك لو غرست في قلبك هذا الإيمان، ونثرت في جوانبه بذور اليقين الصادق بحكمة الحكيم، ووقفت عند اسم الله (الحكيم) بفكرك وقلبك؛ لأزهرتْ روحك رَوحًا وريحانًا وفُلًّا وياسمينًا، ولشعرت بسلام داخلي لا تستطيع نوائب الدهر هزَّه أو اقتلاعه.

ويَكتبُ الله خيرًا أنتَ تجهلهُ  **  وظاهرُ الأمرِ حرمانٌ من النِّعَمِ 

 

 

انتظار ساعة العافية:

إذا علمت أن هذا الكون كله قائم بحكمة الحكيم سبحانه، وأدركت أن الأمور يسيِّرها ربٌّ حكيمٌ عليمٌ يعلم بواطن الأمور، وشاهدت بعين قلبك حكمة الله في خلق الكون والنفس والبشر ثق بربك “الحكيم” سبحانه أنه لا يعطي إلا لحكمة، ولا يمنع إلا لحكمة، وإذا أعطى ومنح لا يستطيع كائن أن يمسك عنك خيره، وإذا منع فلا يستطيع كائن أن ينفعك بشيء، واختيارُ الله لك خيرٌ من اختيارك لنفسك، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، قال سفيان الثوري: “مَنْعُه عطاء؛ وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير العبد، فمنعه اختيارًا وحسن نظر” فربما تطلب ما لا تحمد عاقبته، وربما كان فيه حتفك، ثم إياك أن تسيء الظن بالله إذا خفيت عليك حكمة أمرٍ ما، فتظن بالله ظن السوء، وتمثَّل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو كُشفت لنا حجب الغيب ما اختار أحدُنا لنفسه إلا ما اختاره الله له” فارضَ بالله وحُكمه وحِكمته، وأبشر فبعد الدمعة بسمة، وبعد الخوف أمن، وبعد السقم عافية.

 

انتظارك لساعة العافية حكمة إلهية أراد الله لك أن تعيش هذا الانتظار، وإذا أراد الله لك العافية فستأتيك في اللحظة التي يريدها الله لك، وكلتا الحالتين لك خير.

وإذا البشائرُ لَمْ تَحِنْ أوقاتُهــــــــــا   **   فلِحكمةٍ عند الإله تأخَّــــــــــــرتْ 

‏سيَسُوقُها في حينِها فاصبرْ لهــــــا   **   حتى وإن ضاقتْ عليكَ وأقْفَرتْ 

‏وغدًا سيجرِي دمعُ عينِكَ فرحــــةً   **   وترى السَّحائبَ بالأمانِي أمطَرتْ 

‏وترى ظروفَ الأمسِ صارتْ بَلْسمًا   **   وهيَ الَّتي أعيتْك حينَ تعسَّـرَتْ 

وتقولُ سبحان الذي رَفع البـــــــلا   **   مِن بعد أن فُقِدَ الرَّجاءُ تَيسّرَتْ[1] 

 


[1] شعر د. ماجد بن عبدالله.

_____________________________________________
الكاتب: د. صلاح عبدالشكور


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *