إن الإنسان المعاصر مُلْزَم اليوم بإعادة قراءة معنى الحضارة قراءة واعية تُعيده إلى بهائها في التاريخ وصفائها حينما كانت وسيلة لرقي الإنسان وليس سبيلًا إلى نفي إنسانيته
طوَّر الإنسان ألوانًا من التقنية الحديثة، وأبدع واخترع أشكالًا لا حدود لها من الأدوات عبَّرت عن عبقريته المتفتقة التي ولدتها الحاجة إلى تسهيل ظروف الحياة،
فتدفقت المستحدثات واحدًا تِلْوَ الآخر لتسلك الحضارة طريقها نحو التطور الذي لم يسبق إليه في التاريخ الإنساني، فبنى البروج والصروح المنيفة، وشاد القناطر والجسور في أبدع الصور وأحدث التقنيات الهندسية، وطوَّر التقنية الحربية والرقمية، وغزا الفضاء فبلغ أسمى المدارج وأعلى المنازل؛
لكن ذلك كان على حساب إنسانية الإنسان، فاستعمل الأدوات الجديدة بهمجية الوحوش وعقول الأطفال؛ كما قال الفيلسوف الإنجليزي “جود”، ذلك أن فكر السيطرة ومنطق الأنا ظل راسخًا في الفكر الإنساني، فلم تصقله الحضارة التي من عادتها أن ترقق الطبع وتنقله من غلظته وجفوته فتجعله أكثر انفتاحًا واقترابًا من الآخر؛ حيث يصير الاختلاف عرضًا في مقابل الجوهر الإنساني؛
لذا فالملاحظ أن الحضارة الإنسانية اليوم زادت من قساوة الإنسان وجفاء طبعه، وجعلت منه كائنًا لا يؤمن إلا بالمادة، ولا شيء غير المادة، أما القيم فهي شيء بمنأى عنه؛ لذا فإنسان القرن العشرين وهو يعيش أسوأ ظروف التاريخ المشحونة بحروب مدمرة وأخرى باردة وسط صراع القوى وممارسة الغزو الإمبريالي وسحق الشعوب الضعيفة ونهب ثرواتها وجد نفسه في كنف الرأسمالية المتوحشة الساحقة للطبقات الفقيرة، رأسمالية لا تعرف إلا المصالح المادية لا شأن لها بالإنسان من حيث هو كينونة وجوهر لتجرفه في سيولها الآتية، وتأخذه معها في تياراتها
وهكذا صار الإنسان الحديث يلهث هو الآخر وراء المادة، تتحلَّب أرياقه لاهثة في سعي دؤوب؛ مما جعل حركة الحياة أسرع مما كانت عليه في زمن الأجداد، إنها المادة ساحرة آسرة أخذت معها الألباب، وجعلت الكل يلهث وراءها، فبريق الذهب فتَّان، وملمس الأوراق النقدية مَرْمَريٌّ ناعم، فظل الجمال بعيدًا عن مناحي الإدراك شيئًا مستبعدًا من التفكير الإنساني مثلما حصل مع القيم الإنسانية الجميلة، فالبنايات والدور المتطاولة حجبت العيون عن رؤية جمال السماء وزرقتها وسحبها، متى تغزلها الرياح فتسوقها قطعًا متلاحقة في أديمها، ومنعتها أن تنظر شروق الشمس الذي طال عهدها به حتى إنها لم تعد تعرف عن وجود هذا المشهد في الطبيعة، ولا أن تبصر غروبها وهي تلطخ قبة السماء بحمرة قانية لتسمح لليل بارتداء عباءته الدامسة، فلا تمني نفسًا برؤية نجم يلتمع، ولا إبصار قمر أو هلال يسنو نوره جمالًا في صفحة سماء تتلألأ بمصابيح جعلها الله زينةً للرائي،
فالكُلُّ متعب منهك أعياه اللهث والجري وراء القوت، لا يرى من ضوء سوى ما يشعُّ من مصابيح في أعمدة الكهرباء المنتشرة على الأرصفة أو أضواء السيارات والعربات والنوافذ هنا وهناك، فلا يلبث أن يأخذ منه التعب كل مأخذ فيأوي إلى فراشه، وقد أكل سريعًا لقيمات لم يستشعر حتى مذاقتها ليخلد إلى نوم عميق ربما قد يُجافيه فيسهد جفنه لطول تفكير في مشكل حَلَّ به في سعيه، فيغالب النوم مُتقلِّبًا ذات اليمين وذات اليسار إلى أن تأخذه سِنة فيستفيق من نومة مضطربة منهكًا أكثر مما كان عليه حاله أمس، فيهبّ في عجل من جديد للخروج جريًا وسعيًا،
وهكذا يظل حاله لا يجد للحياة طَعْمًا حلوًا ولا نكهة عذبة، في حين أن غيره في الريف يستيقظ قبيل الفجر فيصلي ركعات يذكر الله تعالى مطمئن القلب، ري الخاطر، يتناهى إلى سمعه صياح الديكة هنا وهناك، يتناول فطوره في هدأة وهو يسمع تغريدة العصافير فوق الأشجار فرحًا بجمال الصباح، تداعبه نسائمه العليلة فيرسل الطرف بعيدًا يتأمل مشرق الشمس وهي تطلع من عليائها لتصافح الوجود الناعس، وينظر جمال الحقول المترامية حيث الغمير أخضر يانع وقد تزيَّن بورد وأزاهير مختلفة ألوانها، فشتان بين رجل أودعته الطبيعة أسرارها ومنحته إكسيرها من سواقيها ومروجها وسمائها وأغصانها وأطيارها، ورجل حرمته الطبيعة متعة النظر إليها، فهو منها بعيد، ومن سلطانها محروم، سلبته المدنية ذلك النزوع الفطري الجميل الذي يسكن بداخل كل إنسان غير أنه يحتاج إلى صقل وتهذيب كي يصفو في صفاء الطبيعة، ويعذب في عذوبتها
لكن المدنية الزائفة جعلت هذه فطرة راقدة في موضعها، قلما تتحرَّك من مكانها بحثًا عن الجمال؛ لذا حينما تستشعر النفس الحنين إلى الجمال، فإنها تهب من دواخلها بحثًا عنه في مواضعه التي هيَّأها الله له ووضعها فيه، فتجدها كالمنعتق من قيود تتأمَّل السماء كما لو أنها لم تتأملها مرة في حياتها، ترى الشمسَ ساطعةً مفترَّة الثغر ترسل أسلاكها الذهبية فتصافح القادم الجديد معلنةً عن صلح بينها وبين الإنسان الذي أثخنته جراح المدنية، وتفترش الأعشاب المندَّاة، وتتوسَّد الأزهار في المروج اليانعة، وترسل الطرف ترقب موج البحر وزرقته المترامية مفترشةً رماله الذهبية، وتستمتع بخرير النهر ورقرقة السواقي العازفة لسمفونيتها الماتعة، وتُشنِّف المسامع بشقشقة الأطيار وطنين النحل يلثم الأزهار.
لقد أفقدت الحضارة بفتنتها وبهرجتها الزائفة إحساس الجمال الذي جعل من الإنسان عبر التاريخ كائنًا يستشعر لذة الوجود مما كان يدفعه إلى التعبير عن وجوده بطقوس جمالية وفنية، فكانت رهافة الحس سمة واسمة للإنسان قبل تمَدُّنه يستشعر مناحي الجمال في كل شيء، فأبدع الشعر والخطب واللوحة وغيرها من أصناف الجمال، وكان من لا يملك المقدرة على الإبداع ذوَّاقًا للفن، يدري مواضع تحَقُّقه، ويُدرِك المناحي التي تجعل منه مسفًّا إذا أسف فيه صاحبه، ويدري المواضع التي تهبه الجمال حين يبدع صانعه، ومع أن الحضارة رققت الطباع لدى شعوب عديدة
فنحن صرنا نعيش حياة الهيمنة التي تقوم على مبدأ البقاء للأصلح، انتصرت فيها القوى المتحضرة، وظَلَّت الدول الضعيفة تسير وراءها بخُطًى متعثرة، تكبو في كل مرة على وجهها، ثم تُعاود النهوض ثانيةً في حين ذلك الغرب بعيد عنها، يكاد يدرك الأفق وهي تلهث وراءه متعبة القوى؛ مما جعل الإنسان كله في العالم وقد أنشبت فيه الرأسمالية أظفارها المتوحشة تنهش عظامه ولحمه، فكان مضطرًّا إلى السير وفق أنساقها إنسانًا مجردًا من كينونته ومن فطريته التي يتعالى داخلها صوت القيم النبيلة وحب الجمال.
لقد خلق الله تعالى الكون وحباه بالجمال، فجعل الكواكب والنجوم زينة فيه، وأنبت في الأرض من كل زوج بهيج، وجعل في الأرض حدائق ذات بهجة وزخرف الأرض، وجعلها تأخذ سندسها في الربيع، فتميَّزت الأوقات على طول السنة، وجعل الله فيها الاختلاف سنةً كونيةً من أجل الإنسان، فلو شاء الله لجعل الفصل واحدًا؛ لكنه تعالى بحكمته جعل للخريف برغم ذبوله رونقًا فريدًا فيه تتندَّى الأرض فتشتم من ثراها ريحًا طيبًا، ومنح الأوراق في الشجر شحوبًا فترتسم لوحة جميلة في صفحة الطبيعة كلما نثرتها الرياح في كافة الأرجاء لتستعد الأفنان لشتاء قادم تعلن فيه الطبيعة عن تصوير مشهد آخر يعلوه البياض ويكنفه الزمهرير، تكتسي فيه ذرى الجبال وأماليد الشجر بدثار أبيض ناصع يأسر العقول، فلا تلبث الأجساد من جمال المنظر أن تنسى لسع سياط البرد القارس، ويأتي الربيع، آه للربيع! فصل البهاء والنقاء والجمال الآسر، فصل يكاد أن يتكلم من حسنه ضاحكًا مفترَّ المبسم، يرسم بأنامله لوحات فاتنة من شتى الألوان، تسمع فيه الزقزقات والرقرقات والخرير والطنين والحفيف، في مهرجان بديع تعزف فيه الطبيعة سمفونيتها الخالدة، ثم يأتي صيف الأحلام ويرسم في الحقول مشهد السنابل الهائجة متمايلة مع النسمات المداعبة، كلما هبَّت من عباءة القيظ الأفح، لتراقص السنبلات الصفراء الفاقعة.
هكذا هي اللوحات ترسمها بداعة أنامل الطبيعة في كل فصل من فصول الحياة، وهذا الإنسان الذي يدعي أنه بلغ من التقنية ومن الحضارة شَأْوًا عظيمًا يظل عنها في منأى لا يدرك أسرارها الجميلة، ولا يعرف كنهها في عناصرها المتنوعة، فلو أنه أدرك منها النزر اليسير لحدا كما كان أجداده يحدون، وأخلد نفسه لسكينة في محفل الطبيعة الجميل، فيحرك بذلك سكنات فطرته النائمة، ويخرجها من عقالها الذي طالما رسفت في قيودها حتى ينسى مآتم الحضارة الزائفة التي أنهكت الإنسان وأتت على أحاسيسه، فحولتها إلى جفاء وقسوة لم يعد معهما- إلا قليل ممن أرهف حسهم – يستشعر ذلك النزوع الإنساني نزوع الرقة واللين والرحمة لغلظ الطباع التي أسهمت فيها المدنية الزائفة في تركيبها في الإنسان المعاصر، فلم يعد منظر المتشرِّد طفلًا أو رجلًا يجرُّ أسماله ممزقة متعفنة يأكل من قمامات رماها الناس أو امرأة عجوز تتسوَّل منهكة نحيفة شاحبة الملامح، تثير في النفس شيئًا من نزوع الإنسان، ولا منظر معوز يفترش الورق المقوَّى لنام عليه الليل في برد الشتاء، ولا مشهد طفل أدمته رصاصة، أو رضيع لم يجد ما يرضع من لبن بعد أن جفَّ ضرع أمِّه، أو يتيم فقد أبويه، فقلب الدهر له ظهر المجن، لم يعد هذا الإنسان يلتفت إلى مثل هذه المشاهد التي غدت مرتسمة في عقله، مألوفة في تمثله، لا تحرك فيه قيد أنملة من شعور بالانتماء للإنسانية، إنها المدنية جبارة عتية استطاعت أن تقتل الأحاسيس الإنسانية، وتطمس وجودها بعدما سلبت الإنسان حب الجمال وتذوُّقه والإحساس به، فصار كالمجنون يجري ويجري لا يكاد يلوي على شيء كل همِّه أن يكسب المال ويحصل الثروة، ولو كان ذلك على حساب القيم النبيلة، ولو كان ذلك على حسابك أيها الإنسان.
إن الإنسان المعاصر مُلْزَم اليوم بإعادة قراءة معنى الحضارة قراءة واعية تُعيده إلى بهائها في التاريخ وصفائها حينما كانت وسيلة لرقي الإنسان وليس سبيلًا إلى نفي إنسانيته، فالارتباط بالجمال طريق إلى صفاء النفس وتهذيبها وتقويمها، حتى يعود النقاء إلى نفسه فلا يضغط نفسه بإيقاعات الحضارة المتسارعة، ويدرك أن في الكون ما هو أسمى ليحقق به الإنسان وجوده في هذه الحياة، شيء لا يقوم على المادة وحدها، وإنما هناك فكر وقيم وشيء أكبر منهما اسمه الإنسان، فإذا تحقَّقَت هذه النظرة للحضارة باعتباره صانعها كيفما كان موقعه داخل المجتمعات فلا بُدَّ أن لمسته في بناء الحضارة كائنة سواء انتبهنا إليها أم لم ننتبه، ما دام أنه كيان موجود كجوهر مفكر، ومن هنا يستطيع الإنسان عبر هذا النزوع الإنساني الجميل أن يحفظ للحضارة رونقها الجميل وصورتها الأنيقة باعتبارها مُنْجزًا إنسانيًّا فتقته العبقرية، وأفرزه الذكاء البشري عبر حقب التاريخ، وسيكون الإنسان على موعد مع إعادة الفكر الفلسفي الحداثي الذي أعاد الاعتبار للإنسان ككائن وجوهر بعدما افتقدها في مراحل تاريخية سابقة إلى نصابه من جديد ليظل الإنسان هو الكُنْه والجوهر الذي عليه قوام الكون كله.
________________________________
الكاتب: جواد عامر
Source link