خلطت العملية الإسرائيلية لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس “إسماعيل هنية” في قلب طهران كثيرا من أوراق، وأرسلت عددا من الرسائل خارجية وداخلية…
“هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل باغتيال أحد قادة حماس، ولكن في كل مرة تزداد قوة الحركة… يبدو أنه تنقصنا الإستراتيجية“
هذه تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيجدور ليبرمان، والتي تأتي في أعقاب اغتيال قائد حماس إسماعيل هنية، والتي يعبر بها الرجل عن استنكاره لسياسة رئيس الوزراء نتنياهو لعدم جدواها من وجهة نظره.
ففي خلال ساعات قليلة قامت إسرائيل بتنفيذ عمليتين اغتيال كبيرتين غير مسبوقتين:
الأولى كانت في بيروت الجنوبية في حارة حريك وهي المقر الرئيسي لحزب الله، وكانت موجهة لفؤاد شكر القائد العسكري للحزب، ومكانته فيه تماثل مكانة قاسم سليماني في الحرس الثوري الإيراني.
أما الاغتيال الثاني فهو الأغرب والأكثر غموضًا، فقد كان موجهًا لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ إسماعيل هنية، حيث استشهد هو وحارسه في قلب طهران.
والسؤال الأهم الذي يتم طرحه في هذا السياق: لماذا أقدمت دولة الكيان الصهيوني على هذه الاغتيالات وبالذات في ذلك التوقيت؟
للإجابة على هذا السؤال يلزمنا تحليل عنصرين:
العنصر الأول: حقيقة ما جرى في حادثة اغتيال زعيم حماس وتفاصيلها لأننا ستعطينا أشعة من الضوء، تفسر جزءًا من دوافع تلك الاغتيالات.
العنصر الثاني: تطورات الحرب في غزة، والموقف الاستراتيجي الراهن بين طرفي الصراع، ومفاوضات صفقة التبادل المنتظرة، ورغبة نتنياهو الحقيقية في هذا الصدد، ودور ما يعرف بمحور المقاومة الشيعي وقدراته.
اغتيال غامض:
يحيط اغتيال إسماعيل هنية كثير من الغرابة والغموض، ووجه الغرابة والدهشة، أنه كيف توصل الصهاينة إلى تحديد مكان إقامته بل غرفة نومه، وهو من المفترض أن الحرس الثوري الإيراني يقوم بمهام حراسته.
ومن المثير أن الذي أول من أعلن نبأ اغتياله رسميًا هي حركة حماس في بيان لها بعد مضي ما يقرب من ثلاث ساعات على اغتياله، بينما التزمت الصمت سلطات البلد الذي تم فيه الاغتيال وهي إيران، والتي سكتت ولم تعلن رسميًا عن الاغتيال إلا بعد صدور بيان حماس بساعات.
وإزاء العجز الصهيوني عن تحقيق الانتصار على المقاومة الفلسطينية، لجأ إلى محاولة هزيمة المقاومة بالضغط على النقطة الضعف الأبرز فيها وهي المدنيين، فشن حملة إبادة متوحشة ضد العزل من العجائز والنساء والأطفال
وظلت متكتمه على الأمر يومين كاملين على الاغتيال، ولم ينشر الإيرانيون صورا عن مكان الاغتيال خاصة أن بعض الروايات تذكر أن مكان تواجد هنية كان في مبنى يبعد 150 مترًا عن منزل الرئيس الإيراني بزشكيان، ولم يفصحوا عن كيفية الاغتيال إلا أخيرا، ورغم ذلك تتعدد السيناريوهات فهل قتل بصاروخ انطلق من مسيرة اخترقت الأجواء الإيرانية، أم من صاروخ موجه من خارج إيران، أم أن هناك سيناريو لا نعرفه قد تم به الاغتيال الغادر؟
وتأخر صدور بيان رسمي إيراني يوضح فيه ملابسات الاغتيال، يجعل الأمر الاغتيال معرضا لطرح سيناريوهات كثيرة متخيلة، ومن يراقب البيانات الرسمية الإيرانية يعلم جيدا أن صدور بيان رسمي يوضح تفاصيل الاغتيال لن يحل الإشكالية، لأن دأب المسئولين الإيرانيين هو عدم قول الحقيقة وإخفائها لاعتبارات سياسية، والأمثلة على ذلك عديدة.
ومما يزيد الأمور تعقيدا هو محاولة إيران بطريق غير مباشر إلقاء تهمة التقصير الأمني الحادث على جانب حماس وقطر، فهذا المحلل السياسي الإيراني الشهير عباس خامه يار المقرب من الحرس الثوري الإيراني، وكان يشغل منصب المستشار الثقافي السابق للسفارة الإيرانية في لبنان، يخرج برواية جديدة تتعلق باغتيال رئيس حركة حماس، يقول إن عملية الاغتيال تمت عبر خط هاتفي غير إيراني كان يستخدمه وسيم أبو شعبان، الحارس الشخصي لإسماعيل هنية.
وتابع إن هنية، كان يستخدم خط هاتف دولي، ممنوح له من جهة رسمية قطرية، وهو من نوع ثريا الذي يعمل عبر الأقمار الصناعية وتم تحديد مكانه عن طريق التكنولوجيا المتطورة، وهذه ليست قضية صعبة.
بينما خرجت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية برواية جديدة دعمتها بصورة للمبنى الذي تواجد فيه هنية.
وتقول هذه الرواية، أن الاغتيال تم بعبوة ناسفة كانت مزروعة داخل غرفته، وأنه قد تم إخفاء القنبلة قبل شهرين تقريباً في دار الضيافة، وفقا لخمسة من المسؤولين في الشرق الأوسط كما نقلت عنهم الصحيفة، ودار الضيافة تديرها وتحميها قوات الحرس الثوري وهي جزء من مجمع كبير، يُعرف باسم نشأت، في حي راق شمال طهران.
وأضاف المسؤولون الخمسة أن القنبلة تم تفجيرها عن بعد، بمجرد التأكد من وجوده داخل غرفته في دار الضيافة، وتبدو هذه الرواية الأكثر واقعية.
وخرجت إيران بتقرير يشير إلى ضربة صاروخية من داخل إيران على بعد أمتار قليلة من مقر إقامة هنية.
وأيا ما كان سيناريو الاغتيال فهو يشكل صفعة صهيونية قوية لطهران.
حرب غزة والحائط المسدود:
استطاع طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر تحقيق عدة أهداف، كان من أبرزها تحطيم قدرة الردع الاستراتيجية لدولة الكيان الصهيوني، والتي مثلت في الفكر السياسي الصهيوني لعدة عقود ركيزة أساسية تحمي بها الدولة نفسها من التهديدات المحيطة.
حاول رئيس الوزراء الصهيوني نتانياهو ترميم هذه النظرية، بعد انهيار دفاعات غلاف غزة أمام قوات المقاومة الفلسطينية في ساعات محدودة.
فارتكزت استراتيجيته على اجتياح قطاع غزة وتفكيك البنية العسكرية للفصائل المسلحة الفلسطينية، ولكن تلك الفصائل وكجزء من استراتيجية اجتياح الطوفان أعدت عدتها لحرب عصابات طويلة، ونجحت فيها بإلحاق خسائر فادحة بجيش الاحتلال.
وإزاء العجز الصهيوني عن تحقيق الانتصار على المقاومة الفلسطينية، لجأ إلى محاولة هزيمة المقاومة بالضغط على النقطة الضعف الأبرز فيها وهي المدنيين، فشن حملة إبادة متوحشة ضد العزل من العجائز والنساء والأطفال، حتى امتد إجرامه إلى تقويض البنى التحتية في القطاع من كهرباء وماء وصرف صحي ومستشفيات ومدارس، وأصبح 17 % من أهل غزة هم فقط الباقون في منازلهم، بينما الباقي من أصل 2.4 مليون، أصبحوا مهجرين خارج بيوتهم ولاجئين، ويتنقلون من منطقة إلى أخرى.
لقد ظلت الاغتيالات أداة استراتيجية صهيونية تحقق بها كثيرا من أهدافها منذ فترة طويلة، يربطها البعض بنشأة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام ١٩٤٨، وفي خلال سبعين عاما منذ قيام دولة الكيان الصهيوني رصد البعض٢٧٠٠ محاولة اغتيال
ولم يكتف تتار العصر بذلك بل مارسوا سياسة تجويع ممنهج ضد أهل غزة، أتبعها محاولة تقويض حكم حماس، واستبدالها بآخرين، ويبدو أن تلك الاستراتيجية لم تحقق المطلوب، فالحسم الذي أبدته المقاومة تجاه كل محاولات التسلل والسيطرة على القطاع قد باءت بالفشل، كما أن الصمود الذي أبداه أهل غزة إزاء التجويع حتى الآن فاق كل التوقعات.
وفي نفس الوقت فإن المفاوضات، قابلت حائط صد من جانب نتانياهو، لأنها لا تحقق أهداف الكيان في غزة وعلى قمتها استعادة الردع، وتحييد المقاومة ومنع أي هجوم من جانبها مماثل للطوفان مستقبلا، وفي نفس الوقت فإن المفاوضين الفلسطينيين، ثبتوا ولم يقدموا التنازلات التي يريدها الرجل.
هنا وجد نتانياهو نفسه في مأزق: ضغوط دولية لوقف المجزرة، مقاومة مستبسلة وتلحق بجنوده خسائر ضخمة في المعدات، غضب ومظاهرات من أهالي الأسرى، نقمة متصاعدة في الجيش، صهيونية دينية متحالفة وفي نفس الوقت متربصة، شعبية متدنية.
القفز إلى الأمام:
للخروج من هذا المأزق لجأ نتنياهو إلى استراتيجية القفز إلى الأمام بالسلاح الذي برعت فيه دولة الاحتلال طوال تاريخها، وهو سلاح الاغتيالات.
ولقد ظلت الاغتيالات أداة استراتيجية صهيونية تحقق بها كثيرا من أهدافها منذ فترة طويلة، يربطها البعض بنشأة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام ١٩٤٨، وفي خلال سبعين عاما منذ قيام دولة الكيان الصهيوني رصد البعض٢٧٠٠ محاولة اغتيال.
وقد رصد تلك الأرقام الصحفي الصهيوني رونين بيرغمان وأصدره في كتابه بعنوان (انهض واقتل أولا: التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة في إسرائيل).
وطوال تاريخ الكيان الصهيوني كانت صورة النصر التي تقدمها حكومات دولة الكيان في حروبها، هي احتلال الأراضي والاغتيالات ولكن في الثلاثين سنة الأخيرة اقتصرت صورة النصر على اغتيالات الزعماء والقيادات
ولكن ماذا تستهدف جولة الكيان الصهيوني بهذه الموجة من الاغتيالات الحالية؟
يظن نتنياهو أن باغتيالات القيادات المشاكسة والمقاومة، سوف يضعف ويربك الكيانات التي يقودها هؤلاء المغتالون.
ولكن لا يقتصر هدف الاغتيالات على إرباك المقاومة، ولكنه يهدف أيضًا إلى بعد خارجي، يتعلق بتغيير بيئة الصراع لصالح الكيان، وهذا ما يفعله نتنياهو الآن.
فنتنياهو يرسل رسالة إلى الإقليم كله، أنه يستطيع أن يطول قيادات المقاومة، ومن يجرؤ على دعمهم أو تقديم المساندة لهم، حتى ولو على مستوى الشكليات مثل ما تقوم إيران وأذرعها.
بل أنه يقوم باغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس في عقر دار زعيمة محور المقاومة المتوهمة، ويتحداها أن تقوم بالرد، ليثبت أن إيران ما هي إلا نمر من ورق، وهي بالفعل هكذا.
كما تتضمن رسالة نتنياهو بالاغتيالات رسالة إلى الداخل اليهودي، والذي يشعر بالإحباط في الشهور الماضية وهو يرى عجز قياداته العسكرية والسياسية على أن يحقق النصر الموعود، سواء بالقضاء على حماس أو تحرير أسراه.
فهذه الاغتيالات هي صورة نصر إسرائيلي يقدمه نتنياهو إلى الجمهور الصهيوني المحتاج للتشفي والزهو، بصرف النظر عن جدواها الاستراتيجي على المدى البعيد.
ولكن نتنياهو دون أن يشعر يقدم خدمة كبيرة للمقاومة، فهذه الاغتيالات قد تكون بالفعل كشفت زيف محور المساندة وأنه ما هو إلا صورة مزيفة من القوة، والتي تحاول أن تصعد إلى مصاف الدول الكبرى الإقليمية بأذرعها، وأن إيران تتخذ من المقاومة مجرد ورقة مساومة على الوصول إلى تلك الغاية.
وهذا بالتأكيد سيدفع المقاومة لتأخذ موقفا تدريجيًا وليس فوريا لتبتعد عن ما يطلق عليه وحدة الساحات. فالتحالف معه أصبح يضر المقاومة أكثر من المصالح التي تأتي منه، ولكن هذا الفصال لن يأتي من يوم وليلة ولكنه سيأخذ بلا شك وقتا.
أما مسألة اغتيال القيادات فالمقاومة تعرف جيدا التعامل مع هذا الواقع الأليم، والتجربة التاريخية تمتلئ بقادة حماس الذي اغتالهم الكيان، بدء من يحيى عياش ومرورا بالشيخ أحمد ياسين وليس انتهاء بالشيخ إسماعيل هنية.
فقدرة حماس مشهودة، وتتمثل نجاحها الدائم في إحلال قيادات جديدة مكان التي استشهدت، والسرعة في إنجاز ذلك الاستبدال نظرا لأنها تتمتع بقدرة مؤسسية عالية يشهد بها الأعداء قبل الأصدقاء.
__________________________________________________
الكاتب: . حسن الرشيدي
Source link