منذ حوالي ساعة
وقد اهتم الحافظ العراقي بتربية ولده على العلم، وقد تعهَّده بالسماع، حتى إنه صنَّف كتاب “تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد”؛ لابنه أبي زرعة
كتب: محمد ثروت أبو الفضل
عبدالرحيم العراقي الأب صاحب ألفية الحديث:
الحافظ زين الدين أبو الفضل عبدالرحيم العراقي الشافعي شيخ الحديث.
ولِد سنة خمس وعشرين وسبعمائة، حفِظ القرآن وهو ابن ثمان، واشتغل في بداية طلبه للعلم بالقراءات، وكان من شيوخه فيها ناصر الدين بن سمعون، وتقي الدين الواسطي، ونظر في الفقه وأصوله، فأخذ الفقه عن ابن عدلان، والبلبيسي، والإسنوي.
ثم اتجه إلى سماع الحديث، فارتحل إلى دمشق وحلب والحجاز وتونس، يسمع على العلماء، وقد انتبه بعد أن أشار عليه العز بن جماعة بالإقبال على علم الحديث، فأخذ بمشورته، فطلب على ابن التركماني والعلائي والسبكي وغيرهم.
وبدأ في التصنيف، فصنَّف: “تخريج أحاديث إحياء علوم الدين”، واختصره في مجلد، وشرع في إكمال “شرح الترمذي”؛ لابن سيِّد الناس، ونظَم “علوم الحديث”؛ لابن الصلاح وشرَحها، فاشتَهرت في الآفاق وتناوَلها العديد من العلماء بالشرح والتمثيل، قال الحافظ ابن حجر: “شرَع في إملاء الحديث من سنة ستٍّ وتسعين، فأحيا الله به سنةَ الإملاء بعد أن كانت دائرة، فأملى أكثر من أربعمائة مجلس، قال الحافظ: وكانت أماليه يُمليها مِن حفظه مُتقنة مُهذبة مُحررة، كثيرة الفوائد الحديثية”؛ (طبقات الحفاظ؛ للسيوطي)، (ص 544).
قال ابن العماد: “صار المنظور إليه في هذا الفن من زمن الشيخ جمال الدين الإسنائي، وهَلُمَّ جرًّا، ولم نرَ في هذا الفن أتقنَ منه، وعليه تخرَّج غالب أهل عصره، ومن أخصهم به نور الدين الهيثمي، وهو الذي درَّبه وعلَّمه كيفية التخريج والتصنيف”؛ (شذرات الذهب في أخبار من ذهب)، (9/ 88).
وَلِيَ قضاء المدينة سنة ثمان وثمانين، فأقام بها نحو ثلاث سنين، ثم سكن القاهرة، وتتلمذ على يديه كثيرون من أبرزهم: ابنه أبو زرعة الذي تولَّى القضاء أيضًا، والهيثمي، وابن العماد، وابن حجر وغيرهم.
قال ابن العماد: “سُئِل عند موته مَن بقِي بعده من الحفَّاظ، فبدأ بي، وثنَّى بولده، وثلَّث بالشيخ نور الدين الهيثمي”؛ (شذرات الذهب في أخبار من ذهب)، (9/ 88).
وقد اهتم الحافظ العراقي بتربية ولده على العلم، وقد تعهَّده بالسماع، حتى إنه صنَّف كتاب “تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد”؛ لابنه أبي زرعة، وأسانيد الكتاب من أصح الأسانيد.
وكان كثير التصنيف في علم الحديث، وانشغل به، ومن جملة مصنفاته: “التقييد والإيضاح في مصطلح الحديث”، وكتاب في المراسيل، و”نكت منهاج البيضاوي في الأصول”، و”نظم الدرر السنية: منظومة في السيرة النبوية“، و”الألفية في غريب القرآن”، و”طرح التثريب في شرح التقريب” الذي أكمَله من بعده ابنه أبو زرعة.
أبو زرعة أحمد بن عبدالرحيم العراقي:
أحمد بن عبدالرحيم بن الحسين بن عبدالرحمن، العراقي الإمام الحافظ أبو زرعة ابن الحافظ العراقي الكبير.
يُعرف كأبيه بابن العراقي، وولد سنة اثنتين وستين وسبعمائة بالقاهرة.
اهتم به أبوه منذ حداثة سنِّه، فأرسَله يسمع العلم وهو في الثالثة من عمره على ابن الحرم القلانسي، والمحب أبي العباس الخلاطي، وناصر الدين التونسي، والشهاب أحمد بن محمد بن أبي بكر العسقلاني بن العطّار والعز بن جماعة، وارتحَل مع أبيه إلى دمشق وبيت المقدس يطلب العلم على علمائها.
ولَمَّا رَجَعَ من الرحلة مع أبيه حفظ القرآن وعدة مختصرات من الفنون، واجتهد في اسْتِيفاء شيوخ الديار المصرية بمصر.
قال السخاوي: “تدرَّب بوالده في الحديث وفنونه، وكذا في غيره من فقه وأصل وعربية، وعادت بركة تربيته عليه، وكذا تفقه بالأبناسي، وعظُم انتفاعه به، وتوجه الشيخ إليه؛ بحيث ساعَده في تحصيل وظائف لخصوصيةٍ كانت بينه وبين والده، وبالسراج البلقيني؛ بحيث كان معوله في الفقه عليه، وأفرد حواشيه على الروضة، وانتفع الناسُ بها، خصوصًا فيما تجدَّد من الحواشي بعد جمع البدر الزركشي”؛ (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)، (1/ 338).
وَلم يَلبَث أَن برع في الحديث والفقه وأصوله والعربية والمعاني والبيان، وأذِن له غير وَاحِد من شيوخه بالإفتاء والتدريس لنجابته وذكائه اللافت للأنظار.
قال السخاوي في “الضوء اللامع”: “درس وهو شاب في حياة أبيه وشيوخه في عدَّة أماكن، وقال أبوه في دروسه قديمًا:
(دروس أحمدَ خيرٌ من دروس أبِه ♦♦♦ وَذَاكَ عِنْد أَبِيه مُنْتَهى أَربه)”
وقد حلَّ محلَّ أبيه في القضاء في رحلات أبيه الحافظ العراقي، وأُقِرَّ عليها، وأُضيفت إليه جهات أبيه بعد مَوته، فزادت رياسته وانتشرت في العلوم وجاهته، وكان من الأماكن التي درَس فِيهَا الحديث المدرسَة الظاهرة البيبرسية والقانبيهية والقراسنقرية، وجامع طولون، والفقه الفاضليَّة والجمالية الناصرية.
قال ابن حجر العسقلاني: “ولَمَّا مات والده تقرَّر في مناصبه الجليلة، فزادت رياسته، وناب في الحكم قديمًا في حدود التسعين”؛ (رفع الإصر عن قضاة مصر)، (ص 60).
وبوفاة والده أتَمَّ مجلس علمه وجلس للإملاء من حيث انتهى أبوه، وأكمَل مصنفاته التي لم يُتمَّها قبل وفاته، فأكمَل شرح تقريب الأسانيد.
وشرَع في شرح مطول لسنن أبي داود لم يُكمله، وجمع النُّكت على المختصرات الثلاثة: التنبيه، والحاوي، والمنهاج، واختصر المهمات للإسنوي.
قال البرهان الحلبي: “سمِع بقراءته على أبيه وغيره، قال: وهو عالم نشأ نشأة حسنة في غاية من اللطافة والحشمة، وحُسن الخُلق والخَلْق، كثير الأشغال والاشتغال من أول عمره إلى آخره، وكان بعد موت الجلال البلقيني أوحد فقهاء مصر والقاهرة، وعليه المعتمد في الفُتيا”.
قال التقي الفاسي: “أخذتُ عنه أشياءَ من تواليفه ومرويَّاته، وانتفعتُ به كثيرًا في علم الحديث وغيره، قال: وهو أكثر فقهاء عصرنا هذا حفظًا للفقه وتعليقًا له وتخريجًا، وفتاويه على كثرتها مستحسنة، ومعرفته للتفسير والعربية والأصول مُتقنة، وأما الحديث فأُوتِي فيه حُسن الرواية وعظيم الدراية في فنونه”؛ (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)، (1/ 341).
قال الجمال بن موسى: “الإمام العلامة الفريد شيخ الحفاظ، هو أشهر من أن يوصَف، وقال البدر العيني: كان عالِمًا فاضلًا، له تصانيف في الأصول والفروع، وفي شرح الأحاديث، ويد طُولى في الإفتاء، كان آخر الأئمة الشافعية بالديار المصرية”.
قال السخاوي في “الضوء اللامع”: “كان من خير أهل عصره بشاشةً وصلابةً في الحُكم، وقيامًا في الحق، وطلاقةَ وجْهٍ وحُسنَ خُلق، وَطِيبَ عِشرَةٍ”.
مات مبطونًا سنة سِتٍّ وعشرين وثمانمائة، ودُفِن إلى جانب والده، وكثُر الأسف عليه، خصوصًا مِن طلبةِ العلم.
Source link