منذ حوالي ساعة
الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السِّجستاني صاحب “السنن”، قال عنه أبو عبدالله الحاكمُ: “أبو داود إمامُ أهلِ الحديث في عصره بلا مُدافَعَةٍ”.
كتب: محمد ثروت أبو الفضل
أبو داود صاحب السنن:
الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السِّجستاني صاحب “السنن”، قال عنه أبو عبدالله الحاكمُ: “أبو داود إمامُ أهلِ الحديث في عصره بلا مُدافَعَةٍ”.
وقال عنه الحافظ المزيُّ: “كان أبو داود أحد مَن رحَلَ وطوَّف، وجمع وصنَّف، وكتب عن العراقيِّين والخراسانيين، والشاميين والمصريين، والجزريين والحجازيين وغيرهم”؛ (تهذيب الكمال) (11/ 356).
ولِد أبو داود في مطلع القرن الثالث الهجري، وتوفِّي في أواخره، وأُتيح له أن يَشهد أَوْج الحضارة الإسلامية ونُضجها في عصرها العلميِّ الذهبي.
وقد أخذ العلم عن كثير من العلماء، كان من أعلاهم: القعنبي، وسعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن مَعين؛ حيث ارتحل من بلده سجستان بإقليم السند إلى بغداد والبصرة لطلب العلم، وهو في سن صغيرة لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.
وطوَّف كثيرًا من البلدان في طلبه العلمَ، فزار الشام ومصر والعراق، ودخل أكثر بلدانها، وسمِع من شيوخها ممن عُرِفوا بحفظ الحديث وروايته، وهو ما خوَّل له جمع كتابه الجامع – “السنن” – من مذاكرته ما يوافي مائة ألف حديث، حتى قيل فيه: “لَمَّا صنَّفَ أبو داود كتابَه “السنن”، أُلِينَ لأبي داود الحديثُ، كما أُلينَ لداود عليه الصلاة والسلام الحديدُ”؛ (معالم السنن)؛ للخطابي (1/ 7)، و”شروط الأئمة الستة”؛ لابن طاهر المقدسي (ص 17).
وقال أحمد بن محمد بن ياسين الهروي في أبي داود: “كان أحدَ حفاظِ الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمه وعلله وسندِه، في أعلى درجاتِ النُّسُكِ والعفافِ والصلاحِ والورعِ، من فُرسان الحديث”؛ (تاريخ بغداد)؛ للخطيب البغدادي (9/ 57)، و(تاريخ دمشق)؛ لابن عساكر (7/ 548).
وقد أشاد كثير من العلماء بأبي داود وجامعه “السنن”، حتى عدُّوه أحدَ أسفار الإسلام، وفي مرتبة الصحيحين: البخاري ومسلم، وهو ما يَشي بقيمة أبي داود العلمية والفقهية بين أقرانه؛ قال محمد بن مخلد: “لَمَّا صنَّف كتاب “السنن”، وقرأه على الناس، صار كتابُه لأصحابِ الحديث كالمصحف يَتبعونه ولا يُخالفونه، وأقرَّ له أهلُ زمانه بالحفظِ والتقدُّم فيه”، وقال أبو عبدالله بن منده: “الذين خرَّجوا الصحيح، وميَّزوا الثابت من المعلول، والخطأ من الصواب: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مُسلِمُ بن الحجاج القُشيري، وبعدهما أبو داود سليمانُ بن الأشعث بن إسحاق السجستاني، وأبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النَّسائي”؛ (شروط الأئمة)؛ لابن منده (ص42).
قال الحافظ أبو طاهر السِّلَفي: “وكتاب أبي داود أحدُ الكتب الخمسة التي اتَّفق أهلُ الحَل والعَقد من الفقهاء والحُفاظ على قَبولها، والحكم بصحة أصولها”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “البخاري وأبو داود إمامان في الفقه من أهل الاجتهاد”؛ (مجموع الفتاوى) (20/ 40).
وقال ابن تغري بردي: “كان إمامَ أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، وكان عارفًا بعلل الحديث وَرِعًا”؛ (النجوم الزاهرة) (3/ 73).
وقد نقَل كثير من العلماء من “سننه” وباقي مؤلفاته في كتبهم، وعدُّوه في مرتبة العلماء الفقهاء الذين يُرجع إليهم في علم الجرح والتعديل، ومن مصنفاته الأخرى: كتابه “المراسيل” الذي ضمَّ بين دفتيه أربعًا وأربعين وخمسمائة حديث مرسل، مُرتبة على الأبواب، وغالبها مما صحَّ إسناده إلى مُرسِله، “كتاب في الرجال”، وكتاب “الزهد“، وكتاب “مسائل الإمام أحمد” الذي اشتمَل على آراء الإمام أحمد الفقهية والعقدية في بعض المسائل، وكتاب “الرد على أهل القدر“، وكتاب “دلائل النبوة”، و”سؤالات أبي عبيد الآجُرِّي له”، وغيرها.
وتوفِّي أبو داود سنة خمس وسبعين ومائتين، وكانت وفاتُه بالبصرة حيث كان يسكنُ، ودفِن إلى جانب قبر سفيان الثوري رحمه الله.
أبو بكر عبدالله بن أبي داود:
الإمام المحقق والحافظ المتقن شيخ بغداد أبو بكر عبدالله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ابن صاحب السنن الإمام المعروف رحمهما الله.
ولِد أبو بكر في سجستان في سنة ثلاثين ومائتين (230هـ)، وارتحل مع أبيه وهو صغير من سجستان في رحلة والده الإمام أبي داود في طلب العلم؛ حيث طاف مع أبيه حواضر العالم الإسلاميِّ في خراسان وأصبهان، وبغداد والكوفة، ومكة والمدينة، والشام ومصر وغيرها في طلب الحديث وعلومه، فورِث منذ قُلامة أظفاره العلمَ كابرًا عن كابرٍ.
وكان أول شيخ سمِع منه محمد بن أسلم الطوسي، وسُرَّ أبوه بذلك؛ لجلالة محمد بن أسلم العلمية في علم الحديث؛ قال عمر بن أحمد الواعظ: سمعت عبدالله بن سليمان بن الأشعث يقول: “وُلِدت سنة ثلاثين ومائتين، ورأيت جنازة إسحاق بن راهويه، ومات سنة ثَمان وثلاثين، وكنت مع ابنه في كُتَّاب، وأول ما كتبتُ سنة إحدى وأربعين عن مُحَمَّد بن أسلم الطوسي، وكان بطوس، وكان رجلًا صالِحًا، وسُرَّ بي أبي لَمَّا كتبتُ عنه، وقَالَ لي: أول ما كتبتَ، كتبتَ عن رجل صالح”؛ (تاريخ بغداد، ت. بشار) (11/ 136).
وانشغل أبو بكر مثل والده بحفظ الحديث وتحصيل العلم منذ صباه، حتى رُوِيت في هِمته أخبارٌ عجيبة؛ منها: ما رواه هو عن نفسه؛ حيث يقول: “دخلت الكوفة ومعي درهم واحد، فأخذتُ به ثلاثين مُدًّا باقلاء، فكنت آكلُ منه كلَّ يوم مُدًّا، وأكتب عن أبي سعيد الأشج، فما فرغ الباقلاء، حتى كتبتُ عنه ثلاثين ألف حديث ما بين مقطوع ومرسل”؛ (تاريخ بغداد) (9/ 466 – 467).
وقد أخذ العلم عن أبيه، واهتم بحفظ مروياته، ولا سيما كتابه الجامع “السنن”، وتتلمذ على غيره من العلماء؛ كأحمد بن صالح، ومحمد بن بشار، وعمرو بن عثمان الحمصي، وإسحاق الكوسج، وعمرو بن علي الفلاس، ومحمد بن يحيى الذهلي.
وروى ابن عساكر قصة عجيبة في حرص أبيه على تعلُّمه على كبار رجال عصره في الحديث، ففي تاريخ ابن عساكر (9/ 186)، قال: “كان أحمد بن صالح يَمتنع على المُرد من رواية الحديث له تَعفُّفًا وتنزُّهًا، ونفيًا للظِّنَّة عن نفسه، وكان أبو داود يَحضُر مجلسه، ويَسمع منه، وكان له ابن أَمْرَدُ يحب أن يُسمعه حديثَه – وهو أبو بكر – وعرَف عادته في الامتناع عليه من الرواية، فاحتال أبو داود بأن شدَّ على ذقنِ ابنه قطعةً من الشعر؛ ليُتَوَهَّمَ مُلتحيًا، ثم أحضره المجلس، وأسمعه جزءًا، فأُخبِر الشيخ بذلك، فقال لأبي داود: أَمثلي يُعمَلُ معه مثل هذا؟! فقال له: أيها الشيخ، لا تُنكر عليَّ ما فعلتُه، واجمع ابني هذا مع شيوخ الفقهاء والرواة، فإن لم يُقاومهم بمعرفته، فاحْرِمْه حينئذٍ من السماع، قال: فاجتمَع طائفة من الشيوخ، فتعرَّض لهم هذا الابن مطارحًا، وغلَب الجميع بفَهمه، ولم يروِ له الشيخ مع ذلك شيئًا من حديثه، وحصَل له ذلك الجزء الأول؛ قال الشيخ: أنا أَرويه، وكان ابن أبي داود يَفتخر برواية هذا الجزء الواحد”.
وبلَغت مرتبته العلمية شأوًا عظيمًا، حتى إنهم فضَّلوه على أبيه في الحفظ والإتقان؛ قال رحمه الله: “حدَّثت من حفظي بأصبهان بستة وثلاثين ألف حديث، ألزموني الوهم فيها في سبعة أحاديث، فلما انصرَفتُ وجدتُ في كتابي خمسة منها على ما كنتُ أُحدِّثُهم به”؛ (تاريخ بغداد) (9/ 466).
وكان الحسن بن مُحَمَّد الخلال يقول: “كان أبو بكر بن أبي داود أحفظَ من أبيه”.
وقد شهِد له بالفضل في العلم كثيرون؛ قال عنه الذهبي: “وكان من بحور العلم؛ بحيث إن بعضهم فضَّله على أبيه”، وقال أيضًا: “كان أبو بكر من الحفاظ المبرزين، ما هو بدون أبيه؛ صنَّف التصانيف، وانتهت إليه رئاسة الحنابلة ببغداد”، وقال أيضًا: “والرجل من كبار علماء المسلمين، ومن أوثق الحفاظ”.
قال صالح بن أحمد الهمذاني الحافظ: “كان ابن أبي داود إمام أهل العراق، ومَن نصَب له السلطان المنبر، وقد كان في وقته بالعراق مشايخُ أسند منه، ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلَغ هو”.
وقال الخطيب البغدادي: “كان فقيهًا عالِمًا حافظًا”.
وقال الخليلي: “الحافظ الإمام ببغداد في وقته، عَلَمٌ متفقٌ عليه، إمام ابن إمام، واحتجَّ به من صنَّف الصحيح: أبو علي الحافظ النيسابوري، وابن حمزة الأصبهاني”.
وقال ابن خلكان: “كان أبو بكر بن أبي داود من أكابر الحفاظ ببغداد، عالِمًا مُتَّفَقًا عليه، إمامًا”.
ومن مصنفاته: (البعث)، و(المصاحف)، و(شريعة المقارئ)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(النشور)، و(مسند عائشة)، وله منظومة حائية في العقيدة.
ومات أبو بكر بن أَبِي داود سنة ست عشرة وثلاثمائة، وهو ابن سبع وثمانين سنة قد مضى له منها ثلاثة أشهر، وصلى عليه زُهاء ثلاثمائة ألف إنسان وأكثر!
Source link