وهذا البيت كان أول بيت وضع للهدى وإعلان توحيد الله ليكون علما مشهودا بالحس على معنى الوحدانية ونفي الإشراك
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
{{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ}} البيت: بناء يأوي واحدا أو جماعة، فيكون بيت سكنى، وبيت صلاة، وبيت ندوة، ويكون مبنيا من حجر أو من أثواب نسيج شعر أو صوف، ويكون من أدم فيسمى قبة، قال تعالى: {{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} } [النحل:81].
{{وُضِعَ}} أسس وأثبت، ومنه سمي المكان موضعا، وأصل الوضع أنه الحط ضد الرفع.
{{لِلنَّاسِ}} أي: لعموم الناس، لعبادتهم ونُسُكهم، يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده. والواضع هو الله تعالى.
وهذا البيت كان أول بيت وضع للهدى وإعلان توحيد الله ليكون علما مشهودا بالحس على معنى الوحدانية ونفي الإشراك، فقد كان جامعا لدلائل الحنيفية، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممر العصور، دون غيره من الهياكل الدينية التي نشأت بعده، وهو ماثل، كان ذلك دلالة إلهية على أنه بمحل العناية من الله تعالى، فدل على أن الدين الذي قارن إقامته هو الدين المراد لله، وهذا يؤول إلى معنى قوله: { {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ} } [آل عمران:19].
قال ابن عاشور: والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها. وظاهر الآية أن الكعبة أول البيوت المبنية في الأرض، فتمسك بهذا الظاهر مجاهد، وقتادة، والسدي، وجماعة، فقالوا: هي أول بناء، وقالوا: أنها كانت مبنية من عهد آدم عليه السلام ثم درست، فجددها إبراهيم، قال ابن عطية: “ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها”، ولكن المحققين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر، وتأولوا الآية. قال علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ” كان قبل البيت بيوت كثيرة” ولا شك أن الكعبة بناها إبراهيم، وقد تعدد في القرآن ذكر ذلك، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أول بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم، لأن قبل إبراهيم أمما وعصورا كان فيها البناء، وأشهر ذلك برج بابل، بني إثر الطوفان، وما بناه المصريون قبل عهد إبراهيم، وما بناه الكلدان في بلد إبراهيم قبل رحلته إلى مصر، ومن ذلك بيت أصنامهم، وذلك قبل أن تصير إليه هاجر التي أهداها له ملك مصر، وقد حكى القرآن عنهم {{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}} [الصافات:97] فتعين تأويل الآية بوجه ظاهر، وقد سلك العلماء مسالك فيه: وهي راجعة إلى تأويل الأول، أو تأويل البيت، أو تأويل فعل وضع، أو تأويل الناس، أو تأويل نظم الآية.
والذي أراه في التأويل أن القرآن كتاب دين وهدى، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التاريخ، ولكن أوائل أسباب الهدى، فالأولية في الآية على بابها، والبيت كذلك، والمعنى أنه أول بيت عبادة حقة وضع لإعلان التوحيد، بقرينة المقام، وبقرينة قوله: {{وُضِعَ لِلنَّاسِ}} المقتضي أنه من وضع واضع لمصلحة الناس، لأنه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه الناس، وبقرينة مجيء الحالين بعد؛ وهما قوله: { {مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}} .
وهذا تأويل في معنى بيت، وإذا كان أول بيت عبادة حق، كان أول معهد للهدى، فكان كل هدى مقتبسا منه فلا محيص لكل قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله، وذلك يوجب اتباع الملة المبنية على أسس ملة بانية، وهذا المفاد من تفريع قوله: {{فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}} [البقرة:95] وتأول الآية علي بن أبي طالب، فروى عنه أن رجلا سأله: أهو أول بيت? قال: “لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى” فجعل مباركا وهدى حالين من الضمير في {وضع} لا من اسم الموصول، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلا على معنى انه أول بيت من بيوت الهدى كما قلنا.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد من الناس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنصارى والمسلمين، وكلهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام فأول معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنه أفضل مما سواه من بيوت عبادتهم.
** وفيه أن تقدم المكان في العبادة له أثر في تفضيله؛ لقوله: {{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}} . وهذا يراد به التفضيل، ولهذا قال العلماء: إن المسجد الأسبق في إقامة الجماعة فيه أفضل من المسجد الحديث. فإذا كان حول الإنسان مسجدان الأول قديم، والآخر جديد، ولم يتميز أحدهما عن الآخر بفضيلة أخرى، فإن القديم أفضل من الجديد لسبقه من العبادة فيه.
قال ابن عاشور: وإنما كانت الأولية موجبة التفضيل لأن مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة، إذ هي في ذلك سواء، ولكنها تتفاضل بما يحف بذلك من طول أزمان التعبد فيها، وبنسبتها إلى بانيها، وبحسن المقصد في ذلك، وقد قال تعالى في مجسد قباء: {{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}} [التوبة:108].
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحق، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون. فإن إبراهيم بني الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمان بني بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول. وأما بيت المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره.
{{لَلَّذِي بِبَكَّةَ}} لغة في مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، تقول: “ضربة لازم ولازب”، “وأربد وأرمد” أي في لون الرماد، وسُمِّيت بذلك لأنها تَبُكّ [تدق وتقطع] أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى: يُبَكون [يذلون] بها ويخضعون عندها. لم يقصِدْها جبارٌ إلا قصمَه الله عز وجل.
وفي ترك الموصوفِ من التفخيم ما لا يخفى، فعدل عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة، وهو الكعبة، إلي تعريفه بالموصولية بأنه الذي ببكة: لأن هذه الصلة صارت أشهر في تعينه عند السامعين، إذ ليس في مكة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة: فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقبوه الكعبة اليمانية.
والكلام شروعٌ في بيان كفرِهم ببعضٍ آخرَ من شعائر ملتِه عليه السلام إثرَ بيانِ كفرِهم بكون كلِّ المطعومات حِلاًّ له عليه السلام. بالرّد على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فَلِمَ يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة، وهي متأخرة الوجود؟ فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس. ولذلك سمي بالبيت العتيق.
روى البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ) [أي سنة] ثُمَّ قَالَ: (حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ) وفي رواية للبخاري أيضا: (أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ) أ» ي في فعل الصلاة إذا حضر وقتها، فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل.
ولا يشك أحد أن باني المسجد الحرام إبراهيم كما لا يشك أحد بأن باني المسجد الأقصى داود وابنه سليمان من بعده، وكان بين إبراهيم وبينهما من المدد ما يتجاوز عن الأربعين بأمثالها، ولكن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما كان بين وضعهما لا عن مدة ما بين بنائهما، فيحتمل أن يكون واضع المسجد الأقصى بعض الأنبياء قبل داود وسليمان ثم بناه داود وابنه في الوقت الذي بنياه فيه، وكذلك يجب أن يحمل تأويل مثله عليه.. قال علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: “إذا حدثتم عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثا فظنوا برسول الله اهناه وانقاه واهداه”.
قال ابن عاشور: لاشك أن بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود، وأشار إليه القرآن في قوله: {{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} } [سبأ:13] الآية، فالظاهر أن إبراهيم لما مر ببلاد الشام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسله عين الله له الموضع الذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذريته، فأقام هنالك مسجدا صغيرا شكرا لله تعالى، وجعله على الصخرة المجعولة مذبحا للقربان. وهي الصخرة التي بنى سليمان عليها المسجد، فلما كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه، وهذا من العلم لذي أهملته كتب اليهود، وقد ثبت في سفر التكوين إن إبراهيم بنى مذابح في جهات مر عليها من أرض الكنعانيين لأن الله أخبره أنه يعطي تلك الأرض لنسله، فالظاهر أنه بنى أيضا بموضع مسجد أورشليم مذبحا.
{{مُبَارَكًا}} البركة: زيادة في الخير.. أي بركة تدوم بدوام الدنيا ولا تفارقه، وجعلت البركة فيه بجعل الله تعالى، إذ قدر أن يكون داخله مثابا ومحصلا على خير يبلغه على مبلغ نيته، وقدر لمجاوريه وسكان بلده أن يكونوا ببركة زيادة الثواب ورفاهية الحال، وأمر بجعل داخله آمنا، وقدر ذلك بين الناس فكان ذلك كله بركة.
وبركاته متعددة، فمن ذلك:
** من بركة ذاته أن حجارته وضعتها عند بنائه يد إبراهيم، ويد إسماعيل، ثم يد محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولاسيما الحجر الأسود.
** قال ابن جرير: “بركته تطهيره الذنوب“.. فمَنْ حَجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
** ومن ذلك أن الحسنات فيه مضاعفة، ولهذا قال أهل العلم: إن العبادة فيه أفضل من العبادة في غيره، سواء كانت صلاة، أم صدقة، أم صياماً، أم غير ذلك.
عَنْ اِبْن عُمَر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: ( «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا» [أي: سبع مرات] « لَا يَضَع قَدَمًا وَلَا يَرْفَع أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّه عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة, وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَة وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَة» ) [ابن حبان وفيه ضعف]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَاكَ تَسْتَلِمُ إِلَّا هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ مَسْحَهُمَا يَحُطَّانِ الْخَطِيئَةَ) وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ طَافَ سَبْعًا فَهُوَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ) » [صحيح]
** ومن بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها، لأنّ البركة لها معنيان: النمو والثبوت، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، وتبارك الله: ثبت ولم يزل.
** ومن بركاته أيضاً أنه تجبى إليه ثمرات كل شيء. فإن مكة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان.
** ومن بركاته أيضاً أن بمكة ماءً من شربه لأي شيء بنية صادقة فإنه يكون له، وهو ماء زمزم، فقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» ) [رواه أحمد عن جابر]
** ومن بركته ما يحصل من المكاسب التي تكون فيه في أيام المواسم، وغير أيام المواسم.
** ومن بركته أنه بعث في مكة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي جعل الله تعالى شريعته أفضل شريعة كانت إلى الخلق.
** ومن بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى الوحش، فيجتمع فيه الظبي والكلب.
قال ابن عاشور: هي ما يسره الله لسكان الحرم وزائريه من طرق الخير، وما دفع عنهم من الأضرار، على حالة اتفق عليها سائر العرب، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم. وأعظمها الأمن، الذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تدينهم، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء، وتواضع مثل هذا بين مختلف القبائل، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والأديان، آية على أن الله تعالى وقر ذلك في نفوسهم. وكذلك تأمين وحشه مع افتتان العرب بحب الصيد. ومنها ما شاع بين العرب من قصم كل من رامه بسوء، وما انصراف الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة إلا آية من آيات الله فيه. ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك. وافتداء الله تعالى إياه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم عليه السلام قربانه. ومنها ما شاع بين العرب وتوارثوا خيره أبا عن جد من نزول الحجر الأسود من السماء على جبل أبي قبيس بمرأى إبراهيم، ولعله حجر كوكبي. ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قحولة أرضه، وملوحة مائه.
{{وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}} هدى أي مناراً يهتدى به لأنه قبلتُهم ومُتعبَّدُهم، فالمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه، وذلك أكبر هداية.
والمؤمنون يأتون حجاجاً وعماراً ويأوون إليه من كل فج عميق، فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية ويزدادون تقى وإيمانا.
{{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}} استئناف ثناء على هذا البيت بما حف به من المناقب والمزايا فغير الأسلوب للاهتمام.
{{مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} } وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت، والآية في ذلك أن قدميه دخلتا في حجر صلد فارتسمت قدماه بقدرة الله عز وجل, ليكون ذلك آية ودلالة على توحيد الله, وصدق نبوة إبراهيم. هذا مع إبقائِه دون سائرِ آياتِ الأنبياءِ عليهم السلام وحفظِه مع كثرة الأعداءِ آيةٌ مستقلةٌ.
وقد كان ملتصقا بجدار البيت، حتى أخّره عُمَر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطُّوَّاف، ولا يُشَوِّشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده.
ومن الآيات البينات أيضا: امتناع الطير من العلو عليه, وإنما يطير حوله لا فوقه. وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته -وقد كانت العادة جارية بذلك- ومن جملة ذلك: هلاك أصحاب الفيل.
وقيل: {{آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}} أي علامات بينات واضحات. وهي المواضع التي يشرع فيها من المناسك، وهي قائمة لم تزل من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا، فعرفة هي عرفة، ومزدلفة هي مزدلفة، ومنى.. لم تزل بهذا من عهد إبراهيم إلى اليوم.
والكعبة هي الكعبة ليس هذا البيت خفياً لا يعلم الناس به، بل لم يزل مشهوراً بيناً واضحاً من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا.
هذا فضلا عن الحجر الأسود الذي قال فيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الحجر الأسود من حجارة الجنة) [صحيح الجامع]
قال في البحر المحيط: وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}، الضمير في فيه عائد على البيت، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت. لكنهم توسعوا في الظرفية، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران. ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه على سبيل المجاز.
{وَمَنْ دَخَلَهُ} أي الحرم الذي حول البيت بحدوده المعروفة.
{{كَانَ آمِنًا}} من أبناء جنسه، وليس آمناً من عذاب الله.. لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض، كما قال تعالى: {{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}} [العنكبوت:67] وقال تعالى: { {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}} [قريش: 3-4]
قال الشافعي: لما ذكر الله تعالى أن فيها آيات بينات جعل من جملتها: “أن من دخله كان آمناً”, وإن كان من الآيات في أن الله تعالى جعل لذلك الموضع هيبة ووقاراً وعظمة في نفوس المفسدين المتمردين.
قال الزمخشري: “ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما”.
وظاهر الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت، وأمن من دخله من ذوي الجرائم. كما قال الحسن البصري وغيره: “كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عُنُقِه صوفَة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يُهَيِّجْهُ حتى يخرج”.
وروى البخاري عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْغَدَ يَوْمَ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ. إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (إِنْ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ: “أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ”. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْخَرْبَةُ الْبَلِيَّةُ
فالرجلُ لوْ جَرَّ كلَّ جريرةٍ ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب. وعن ابن عباس قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يُطْعَم ولا يُسقى، فإذا خرج أُخذ بذنبه.
وعن عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لو ظفِرتُ فيه بقاتل الخطابِ ما مسَسْتُه حتى يخرُجَ منه.
ولذلك قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: من لزِمه القتلُ في الحِلّ بقصاص أو رِدَّةً أو زنىً فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرَّضْ له إلا أنه لا يؤوى ولا يُطْعم ولا يسقى ولا يُبايَع حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج.
وانعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان.
فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه.
وقيل: هذا خبر معناه الأمر. أي ومَن دخله فأمّنوه. وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله، لكنْ صدَّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: « (لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ السِّلَاحَ بِمَكَّةَ)» [ابن حبان: صحيح]
{{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ}} حكم أعقب به الامتنان: لما في هذا الحكم من التنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه. والتقدير: مباركا، وهدى، وواجبا حجه. فهو عطف على الأحوال.
وهي أبلغ صيغ الإِيجاب للحج: [لام الاستحقاق، وحرف “على” الدال على تقرر حق في ذمة المجرور بها]، يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته.
فدلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج، إذ جاء ذلك بقوله: { {وَلِلَّهِ}} فيشعر بأن ذلك له تعالى، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء، وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين.
{{حِجُّ الْبَيْتِ} } والألف واللامُ في البيت للعهد، فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة، وكأنه صار كالنجم للثريا.
وحجُّه قصْدُه للزيارة على الوجه المخصوص المعهود، وكسر الحاء لغةُ نجدٍ.
{{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}} طريقاً، وهو تقييد حال الوجوب، والمراد وجد سبيلا وتمكن منه، والكلام بأواخره.
والسبيل هنا مجاز فيما يتمكن به المكلف من الحج من القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك، بأي طريق قدر عليه من: مشي، وركوب بحر، وإيجار نفسه للخدمة.. واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة.
وقال عمر، وابنه، وابن عباس، وعطاء، وابن جبير: هي حال الذي يجد زاداً وراحلة، وعلى هذا أكثر العلماء.
وقال مالك: السبيل القدرة والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم.
فإن قال قائل: هذا الشرط ثابت في كل عبادة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فلماذا قيد وجوب الحج بالاستطاعة مع أنه شرط مفهوم معلوم؟
فالجواب: أنه لما كان الوصول إلى البيت شاقًا، أشق بكثير من سائر العبادات نص على اشتراط الاستطاعة، وإلا فلا شك أن كل العبادات لا تجب إلا بالاستطاعة. قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ)» [مسلم]
وهذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: {{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}} [البقرة:196] والأول أظهر.
وفيه وجوب الحج على الفور لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك. روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ)» [حديث حسن]
وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَيَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَكُونُ الْحَاجَةُ)» [أحمد، حسن] وفي رواية ابن ماجة: (وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ)
وقال أبو عمر بن عبد البر: ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها.
والقادر هو القادر بماله فقط فينيب عنه أو بدنه واستطاع الوصول للحج ولو ماشيا أو بهما. وهذه القدرة هي القدرة الحسية.
أما القدرة الشرعية ففيها خلاف؛ فمنهم من قال إنه يشترط أيضاً القدرة الشرعية، أو الاستطاعة الشرعية، فلو كان هناك امرأة غنية قادرة ببدنها، لكن ليس لها محرم فإن الحج لا يجب عليها؛ لأنها عاجزة شرعاً عن الحج، لعدم وجود المحرم، وسفر المرأة بلا محرم ولو للحج غير جائز؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما خطب وقال: « (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَلَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ) فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: (انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ)» [مسلم]
واختلف العلماء في مسألة الاستطاعة الشرعية، هل هي شرط للوجوب أو شرط للأداء؟ ويختلف الحكم باختلاف القولين، فإذا قلنا: إنها شرط للأداء فقط لزم المرأة أن تنيب من يحج عنها إذا كانت قادرة بمالها أو بمالها وبدنها .
وإذا قلنا: إنها -أي الاستطاعة الشرعية- شرط للوجوب، فإن هذه المرأة لا يلزمها أن تنيب من يحج عنها. هذا فرق .
الفرق الثاني: لو ماتت هذه المرأة القادرة بمالها وبدنها على الحج لكن ليس لها محرم، فهل يكون الحج ديناً في تركتها فيلزم الورثة أن يقيموا من يحج عنها أو لا؟.
إن قلنا بأن الاستطاعة الشرعية شرط للوجوب فإنه لا يلزم الورثة أن يقيموا من يحج عنها؛ لأن هذه المرأة كالمرأة الفقيرة سواء، ليس عليها حج. أو أن يحجوا هم بأنفسهم عنها. وإن قلنا إنه شرط للأداء لزم الورثة أن ينيبوا من يحج عنها.
{{وَمَنْ كَفَرَ}} فيه الإِشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير عدم المبالاة. وفيه من أنواع التأكيد والتشديد قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} مكان “ومَن لم يحج” تغليظاً على تارك الحج.
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: “مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ فَأَقْسِمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا”. [أبو نعيم في الحلية] وفي رواية عنه:
“من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا”.
واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الكفر، هل هو الكفر المطلق «كفر جحود» أو هو نوع من الكفر «كفر معصية»؟ على قولين لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد :
الأولى: فعلى القول بأنه الكفر المطلق، يكون من ترك الحج وهو مستطيع مرتداً خارجاً عن الإسلام، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل .
الثانية: وعلى القول الثاني، بأن المراد بالكفر هنا نوع من الكفر فإنه لا يكفر. وهذا القول هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو ظاهر ما روي عن الصحابة.
قال عبد الله بن شقيق: “كان أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة”، وعلى هذا فيكون الكفر هنا نوعاً من الكفر، كقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)» [البخاري] وقتال المسلم لا يُخرج من الإيمان، كما قال الله تعالى: { {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} } [الحجرات:٩] إلى قوله: {{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}} [الحجرات:١٠]
{{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}} بیان غنى الله عزّ وجل عن كل أحد. ولم يقل: “عنه”.
وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة
فهو سبحانه لم يأمر عباده بالعبادة من أجل أن ينتفع بها، وإنما أمرنا ونهانا لتستقيم أمورنا، وتصلح أحوالنا، ونسعد في الدنيا والآخرة.
وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان.. قال ابن عطية: “والقصد بالكلام: فإن الله غني عنهم، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه، حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا ربَّ سواه” انتهى.
وكما أنه إذا كان الله غنياً عن العالمين، لزم أن يكون العالمون مفتقرين إليه، وليس بهم غنى عن الله. وهو كذلك، فإن الخلق مفتقرون إلى الله تعالى غاية الافتقار، ولهذا ينبغي لك أن تسأل ربك في كل أمورك بلسان الحال أو لسان المقال، واستعن بالله في كل أمورك {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}} [الفاتحة:5] لا يغفل عن بالك تعلقك بالله سبحانه وتعالى في كل شيء، وقد جاء في الحديث: «(لِيَسْأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ) » [ابن حبان]، أي شراك النعل الزهيد الذي لا يساوي شيئاً، لا تغفل عن سؤال الله إياه، إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link