منذ حوالي ساعة
يقولُ أبو الدرداء -رضي الله عنه-: صُومُوا يومًا شديدًا حرُّه لحَرِّ يومِ النُّشُور، وصَلُّوا ركعتَين في ظُلمةِ الليل لظُلمةِ القُبُور.
الحمدُ لله الملك المعبود، واسِعِ الكرم والجُود، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُهُ وهو بكلِّ لِسانٍ محمُود، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً مُبرَّأةً مِن الشكِّ والجُحُود، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحِبُ المقامِ المحمُود، والحَوضِ المورُود، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه أهلِ الكرَمِ والفضلِ والجُود، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى اليوم الموعُود.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
عباد الله: إن من آيات عظمة الله جل وعلا، اختلاف الليل والنهار، وتقلب الأيام والشهور، والفصول والأعوام، يقول تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5].
ومن تأمل الحكمة البالغة فيما خلقه الله تعالى في هذه الدنيا ليذكر بالآخرة، وحتى لا يستكين العباد إليها، فيكون في الدنيا من النصب والشدة، ما يذكرهم بأنها دار ممر لا دار مقر، ومن ذلك هذا الصيف، والحر، واختلاف الفصول، والدهور.
وها نحن نعايش فصل الصيف، حيث الحر اللاهب، والشمس الحارقة؛ إلا أن المؤمن لا يمر عليه زمان دون تفكر وتذكر، يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فيذكرنا تعاقب الليل والنهار، واختلاف الفصول والمواسم، بأن الحياةَ مراحل، وأَن كُلَّ مرحلة لها قيمتُها ومكانتُها، ولكل منها تَبِعةٌ مطلوبةٌ، وحسابٌ قائمٌ، قال الحسنُ البصري -رحمه الله-: ما من يوم ينشق فجره، وتشرق شمسه، إلا ينادي منادٍ يا ابن آدمَ أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيدٌ، فتزود مني بعملٍ صالحٍ، فإني لا أعودُ إلى يوم القيامة.
وإنّ في هذا الحر دليلاً من دلائل ربوبية الله سبحانه، فهو الذي يقلّب الأيام والشهور، ويطوي الأعوام والدهور، وهو الواحد الأحد الصمد، المستحق للعبادة، سبحانه وبحمده! فوجوده سبحانه وربوبيتُه وقدرتُه، أظهرُ من كل شيء على الإطلاق.
قال ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحرّ والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما، وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة، لأضرّ ذلك بالأبدان والنبات وأهلكها، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك.
الحرّ ابتلاء من الله تعالى لعباده، وابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، فإذا جاء الصيف تضجَّر منه، وإذا جاء الشتاء تضجَّر منه، وهذا من طبع البشر؛
يَتمنَّى المَرءُ فِي الصَّيف الشِّتاء ** فإذَا جَاءَ الشِّتاءُ أَنكرهُ
فهو لَا يَرضَى بحَالٍ وَاحِــــــــدٍ ** قُتلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَـرهُ
لكن المؤمن الحق يرضى بما قدر الله له، قال صلى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ». (رواه مسلم).
ولقد كان مِن سُننِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تذكِيرُ أصحابِه بمَا يرَونَه مِن أحداثِ الدنيا بأحداثِ الآخرة، ففي الصحيحين، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نارُكم هذه التي يُوقِدُ بنُو آدم جُزءٌ مِن سبعِين جُزءًا مِن جهنَّم»، قالوا: واللهِ إن كانَت لكافِيَة! قال: «إنها فُضِّلَت عليها بتِسعةٍ وتِسعِين جُزءًا كلُّها مِثلُ حرِّها».
فشدة الحر تذكير بعذاب الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:«اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا؟ فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير»، (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم». (رواه البخاري).
فينبغي للمؤمن أن يتذكر بشدة حر الشمس حرها في الموقف عندما تدنو من رؤوس الخلائق، وتصبح على قدر ميل، فيكون الناس في العرق على أعمالهم وإيمانهم، إلا من أراد الله أن يكون في ظل عرشه، فيا من لا يطيق حر الدنيا ماذا أعددت للآخرة؟ ويا من يفر من حرارة الشمس إلى الظل، ويهرب من الأجواء الحارة إلى الباردة، أولى لك ثم أولى أن تفر من نار حامية، نارِ تلظى!
تَفِرُّ من الهجيرِ وتتقيـــــــه ** فهلاَّ عن جهنم قد فررتــا؟
ولست تطيق أهونها عذاباً ** ولو كنتَ الحديد بها لذُبتا
والنبي صلى الله عليه وسلم لما خرج بأصحابه في غزوة تبوك كان في حر شديد، وتخلف المنافقون، وقال بعضهم: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] فرد القرآن عليهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81]، فالحر لا يمنع من طاعة الله، بل هو ابتلاء للعباد، لينظر كيف يعملون، فيظهر من يطيعه في كل الأحوال والأوقات، فالخروج في الحر في سبيل الله إلى جمعة وجماعة، واحتساب الأجر في هذه المشقة، شأنه عظيم، يقولُ أبو الدرداء -رضي الله عنه-: صُومُوا يومًا شديدًا حرُّه لحَرِّ يومِ النُّشُور، وصَلُّوا ركعتَين في ظُلمةِ الليل لظُلمةِ القُبُور، ولما حضرت معاذًا الوفاة قال: «اللهم إني قد كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها، لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب، عند حلق الذكر».
وفي الصيف يستشعر العقلاء نعم الله عليهم، من ظل وتكييف وماء بارد، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، فلقد هيأ الله لعباده من أسباب الراحة ووسائل دفع أذى الحر مالم يتهيأ لمن كان قبلهم، يقول أنس-رضي الله عنه- «كُنَّا نُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعُ أحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِن شِدَّةِ الحَرِّ في مَكَانِ السُّجُودِ». (رواه البخاري)، فهذه النعم تستوجب الحمد والشكر، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من عباد الله الموفقين الذين يجعَلُون من هذه الأجواء الحارَّة بابًا واسِعًا للمعروفِ والإحسانِ، بالعمل الصالح، والصدقة الجارية بحفر الآبار، وسَقيِ الماءِ، وتسبيل البرادات في المساجد والأسواق، وغرس الأشجار؛ ففي كل كبِدٍ رَطبةٍ أجرٌ، واتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمرة.
Source link