منذ حوالي ساعة
أمة الإسلام تتجاوز جراحاتها وآلامها، وتتمسك بالخيار الوحيد لعزتها وكرامتها؛ الجهاد في سبيل الله، أما التخاذل والاستسلام، والمهادنة والتطبيع، فليس من هذا الدين بشيء، وليست للكرامة والعزة سبيلًا
دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ للخروج ومقاتلة الروم بعد حشودهم المهدِّدة للمدينة المنورة، التي قاربت مائتي ألف مقاتلٍ، فاجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل، فعقد الراية لثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم، وجعل إمرتهم بالتناوب؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أُصيب زيدُ بن حارثة، فجعفرُ بن أبي طالب، فإن أُصيب جعفرُ فعبدُالله بن رواحة»؛ (رواه البخاري ومسلم).
فتأمَّلوا – عباد الله – كيف أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيشَ بهذا الترتيب لقيادتهم، وكأنه يبلغهم باستشهادهم مسبَّقًا، ليؤكِّد حقيقة مهمة في طبيعة هذه الأمة، وحقيقة جهادها لأعدائها، وطبيعة هذا الدين؛ أنها أُمَّةٌ لا تُقدِّس قيادتها، بل هم مشاعلُ وقودِ جهادها، وأن جهادها لا يتوقف على غياب قيادتها، وأن هذا الدين دينُ عقيدةٍ ومبادئ، وأن قادته ورجاله هم وقود تحقيقها، وأن رسالته الخالدة ذات غاية عظيمة سامية؛ هي رفع لواء التوحيد والعدالة والحق، ودفع الظلم والظالمين أبدَ الدهر.
نعم عباد الله، بل الموقف الأكثر تعبيرًا، والأشد تأثيرًا، والأوضح بيانًا هو ما حدث في معركة أُحُدٍ، حين أُشِيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ، بعد أنِ انقلب نصر المسلمين إلى هزيمة، وقُتِلَ سبعون من الصحابة الكِرام، فكانت نكبةً كبيرة، فمرَّ أنسُ بنُ النَّضر رضي الله عنه على جماعة من المسلمين قد ألقَوا سلاحهم وجلسوا، فقال: ما يُجلسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا، فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم، فتقدَّم بسيفه فلقِيَ سعدَ بن معاذ، فقال: إلى أين يا سعد؟ فقال: إني لأجد ريح الجنة دون أُحُدٍ، فمضى فقُتِلَ، فما عُرِف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانة، وبه بضع وثمانون، من بين طعنة، وضربة، ورمية سهمٍ)).
ونزل في ذلك الموقف عن أولئك المسلمين قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
كما نزل قول الله تعالى في أنس بن النضر وثباته: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، من صدقِهم أنهم ما غيَّروا عهدَ الله، ولا نقضوه ولا بدَّلوه.
فما الذي حدث بعد هزيمة المسلمين في أُحُدٍ، ودماؤهم تنزف، وهم يوارون قتلاهم الثرى، والحزن قد ملأ قلوبهم، وخيَّم الحزن والأسى على المدينة تلك الليلة بين بكاء الثَّكالى، وأنين الجرحى؟ فما الذي حدث فجر اليوم التالي؟ هل استسلم المسلمون لأحزانهم؟ وهل ركنوا لهزيمتهم؟
فاجأ النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر المسلمين بنداء مناديه للخروج للحاق بجيش المشركين، في رسالة واضحة جلِيَّة للأعداء، بأن المسلمين ما زالوا أعزةً قادرين على المواجهة، وأن جراحهم وآلامهم لا يمكن أن تعُوقَهم عن مواصلة الجهاد والقتال، ولم يكن الأمر عامًّا للجميع، بل كان مقصورًا على أولئك الذين شهِدوا معركة أُحُدٍ أمس، وما كاد بلال رضي الله عنه يؤذِّن في الناس بالخروج للجهاد مرة أخرى، حتى هبَّ الصحابة الكرام على الرغم من الجروح والآلام، وانطلقوا جميعًا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طلبًا للنصر أو الشهادة في سبيل الله.
هذه هي أمة الإسلام – عباد الله – تتجاوز جراحاتها وآلامها، وتتمسك بالخيار الوحيد لعزتها وكرامتها؛ الجهاد في سبيل الله، أما التخاذل والاستسلام، والمهادنة والتطبيع، فليس من هذا الدين بشيء، وليست للكرامة والعزة سبيلًا؛ قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، قالت لعروة: ((يا بن أختي، كان أبواك منهم؛ الزبير وأبو بكر، لما أصاب نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يومَ أُحُدٍ، فانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: من يذهب في إثْرِهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير))؛ (رواه البخاري).
معاشر المؤمنين:
وقف النعمان بن مقرن المزني – عباد الله – قبيل معركة نهاوند التي أتمَّت الانتصار في معركة القادسية على الفرس، إيذانًا بسقوط دولة الفرس، وسُمِّيت بفتح الفتوح – وقف وقد اصطف الجيشان، فكبَّر النعمان التكبيرة الأولى ثم الثانية، ثم قال: “اللهم أعزَّ دينك وانصر عبادك، واجعل النعمان أولَ شهيدٍ اليومَ على إعزاز دينك ونصر عبادك، اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتحٍ يكون فيه عز الإسلام، أمِّنوا رحمكم الله”، فبكى الناس، وكبَّر النعمان التكبيرة الثالثة، وكان ما أراد، فتمَّ الفتح، وكان النعمان أول شهيد، وما أخَّرت شهادته الفتحَ الذي تمَّ، وكان فتحًا مبينًا، ونصرًا عزيزًا.
هذا هو كتاب الله تعالى، وهذه هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تاريخ صحابته الكرام وسائر أبطال الإسلام وقادته، هذا الدين دينُ حقٍّ وعدالة، وهذه الأُمَّةُ أُمَّةُ جهادٍ وعِزَّةٍ، قادتها هم مشاعلُ نورٍ في طريق جهادها، وسبيل كرامتها وتحقيق رسالتها، لا يتعلق تحقيق ذلك بوجودهم وحياتهم، بل بجهادهم وسيرتهم التي تُنير الطريق لمن بعدهم.
وما يفعله الصهاينة اليومَ في فلسطين من قَتلٍ واغتيال، فإنما هو دَيدنُ جُبنِهم وغدرهم، منذ بدأ الجهاد في أرض فلسطين، فقد تقدم الأبطال القادة قوافلَ الشهداء؛ ليُشعِلوا جذوة الجهاد في نفوس أهل فلسطين والأمة جميعًا، وإن غياب قادة الجهاد في فلسطين، واستشهادهم، لن يُوقِفَ الجهاد والمقاومة، بل فيهم {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
______________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي
Source link