التَّفكير الإيجابي، والتحرُّر من السَّلبِيَّة القاتلة، وإبراز حُسْن الظَّن بالله، يَجِبُ أن يستصحبها الإنسان في جميع أموره، يقول الله سبحانه وتَعَالَى: ﴿ {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
عند الأزمات والْمَشَاكل وتقلُّب الأمور وضيق العيش يتجلَّى حُسْنُ الظَّن بالله، وهو سببٌ لاستجلاب رضا الله سُبْحَانَهُ وتَعالى، ولا يُوجد في هذه الحياة ما هو أريح لقلب الإنسان، وأهدأُ لروحه، وأسعدُ لنفسه، من حُسْن الظَّن بالله، فيبعده الله عمَّا يؤذي النَّفس، ويُكدِّر البال، فمن كان الله معه؛ فلن يتسلَّل إليه الحُزْن؛ لأن الله يحفظه ويرعاه
فعِنْدَمَا كان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار قَالَ لصاحبه أبي بكر: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وفي الحديث: «ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهُما»؛ (البخاري: 3653)، وهذا تمام حُسْن الظَّن بالله، فماذا حصل لهما؟ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، .
ما أجملَ حُسْنَ الظَّن بالله! وما أسرع نتيجتَه! وقد يغيب هَذَا المبدأ عَلَى أناس فتسُوء حالتهم، فقد روى ابن عبَّاس: ((أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ علَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: «لا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَقَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، علَى شيخٍ كَبِيرٍ، كَيْما تُزِيرَهُ القُبُورَ، قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فَنَعَمْ إذًا»؛ (البخاري: 5662)، وهو ما حصل له بالفعل.
الخلاف بين الأزواج جِبِلَّةٌ بشرية، فعندما تواجهنا مُشْكِلة قد نشعُر بالتَّوتُّر والقلق، وأنَّ الأمور تسيرُ عكس ما نُريد، وقد نُسيء الظَّن بما يحصُل لنا مِن أحداث، ويتملَّكُنا اليأس، ونستسلم للمصير… ولو تأمَّلنا مليًّا فيما أصابنا، ويُصيبُنا، لوجدنا أَنَّنَا لا نفهمُ ما يحدثُ من حولنا، فليس كُلُّ ما يُصيبنا من أحداث مؤلمة شرًّا محضًا، فرُبَّما يكون خيرًا، وبعض النَّاس إذا نزل به البلاء، ضاقت به الدُّنيا، وأساء الظَّنَّ بالله، ورأى في نفسه أنَّه مظلوم، وأَنَّ مَن حوله لم يُصب بمثل ما أصيب به! ويقنطُ من رحمة الله، وإساءة الظَّن بالله من أعظم الذُّنُوب، قال ابنُ القيِّمِ: “أعظَمُ الذُّنوبِ عِندَ اللهِ إساءةُ الظَّنِّ به؛ ولهذا توعَّد الله سبحانه الظَّانِّين به ظنَّ السَّوء بما لم يتوعَّد به غيرهم، كما قال تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]”؛ انتهى.
تخيَّل أخي الكريم أنَّك تُهْتَ في عُمْق الصَّحراء وحيدًا، بلا ماء، ولا طعام، فماذا سيكون شعورك؟ وماذا سيكون ظنُّك بالله؟ هَذَا الموقف عاشته هاجر عليها السَّلَام، عِنْدَما تركها نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلَام، هي وابنها الرَّضيع، في وادٍ غير ذي زرع، ليس به ماء، ولا أنيس، ولا جليس، معها سقاء، وجرابٌ فيه تمر، فولَّى إبراهيم، فتبعته هاجر تسأله: (آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: (إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا)، امتلأ ردُّها بحسن الظَّن بالله؛ لأنها تعرفه في الرَّخاء، والشِّدة.
وكاد يموت ابنها من شدَّة العطش، فظلَّت على حُسْن ظنِّها بربِّها، وأخذت بالأسباب، تطوف بين الصَّفا والمروة، تبحثُ عن بصيص مِن الأمل في هذه الصحراء القاحلة؛ فأتاها الجواب من الله، فإذا بالملك يحرِّكُ جناحه، يضرب في الأرض، لينبع ماءً، لا نزال نشرب مِنْهُ حتى الآن، وأرسل لها الله (أفئدة) من النَّاس (تهوي) إليهم، وهذه دعوة إبراهيم عليه السَّلَام لها هي وابنها: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وفي موقف آخر لإبراهيم عَليهِ السَّلام، يتجلَّى فيه حُسْنُ الظَّن بالله، حينما وُضِع في المنجنيق ليُرمى به في نارٍ عظيمة، حَيثُ أوقدوها، ولم يستطيعوا رمي إبراهيم فيها إلا بهذه الطريقة؛ حتى إنَّ الطُّيور تتهاوى وتسقط فيها؛ لشدة حرارتها، وعظمها، فجاءَه جبريل عليه السَّلَام يَقُولُ له: ألك مِن حاجة -ولا يزال يُحسنُ الظَّنَّ بالله- قَاَلَ له إبراهيم: أما إِلَيْكَ فلا، وأما إلى الله فنعم، ثُمَّ قال: (حسبي الله ونعم الوكيل)؛ فأجابه ملك الملوك بقوله سُبْحَانَهُ: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. فإبراهيم لم يخف مِن النَّار، ولم يُلْقِ لها بالًا؛ لتعلق قلبه، وحسن ظنِّه بربِّه.
وفي موقف الخضر عَلَيْهِ السلام مع موسى يبرز حُسْن الظَّنِّ بالله، حيث قام بخرق السَّفينة، وأهلُ السَّفينة قد أصابهم الحُزْنُ في ذلك؛ حَتَّى إنَّ موسى ضاق ذرعًا بهذا العمل فقال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]، أطْلعَ الله الخضر على الغيب، وأمره بهذا الأمر؛ لأنَّ هناك مَلِكًا يأخذُ كُلَّ سفينة غصبًا، لو علم أهل السَّفينة، وموسى بجمال قدر الله الخفي؛ لسجدوا شكرًا عَلَى هذا الابتلاء الجميل الذي أصابهم، ولم يعترضوا عَلَيْه، ولفرحوا به أشَدَّ الفرح، حَتَّى وإن كان ظاهره هلاكًا وغرقًا لأهل السفينة.
ما الذي يجب أن نتمثَّله في حياتنا إنَّهُ الصبر، وحسن الظن بالله، ونلاحظ أنَّ الخضر كرر على موسى عبارة: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]، وبرر ذلِكَ بقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68]، ورَدَّ موسى قائلًا: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]، وهذا درس عظيم، نلحظ فيه اقتران حُسْن الظَّن بالله بالصَّبر، وتتجلَّى أهمية الصَّبر في حياتنا، وعلى المشاكل الزَّوْجِيَّة على وجه الخصوص، وعدم استعجال النَّتيجة، وعدم الاستسلام، وهذا له أثر كبير عَلَى ثبات الأُسْرَة، واستقرارها؛ فكثير من الأحداث التي تعصف بنا قد تبدأ شرارتها بسوء ظنٍّ بالله في أن نخرج مِمَّا حل بنا! وهل مِن خلق السَّموات والأرض، ولم يعيَ بخلقهن غَيْر قادر على إمضاء بَعْض الأقدار البسيطة التي تُصيبُنا؟! كلَّا إنَّ لله في ذلك حكمةً، وقَدَرًا جميلًا. وهذا درس عظيم نستفيد مِنْهُ لنصبر، ونجني عاقبة الصَّبر.
هُنَاكَ عدد ٌممن التقيت بهم لعلاج مشاكلهم الأُسْريَّة يدَّعون أنهم يُحسنون الظَّن بالله، ومن السُّهولة ادِّعاء ذلك، فحسن الظَّن بالله يَجِبُ أن يَكُون اعتقادًا راسخًا يملأُ القلب، وهبة يهبُها الله لمن يشاء من عباده، وهي عبادة قلبية، وعلاج نفسي قوي. قَاَلَ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئًا خيرًا من حُسْن الظَّن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يُحسن عبد بالله عز وجل الظَّن إلا أعطاه الله عَزَّ وجل ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده)؛ (شعب الإيمان: 2/ 322).
ولنا في فقد يعقوب لابنه يوسف عبرة؛ حَيثُ نلحظ عددًا مِن مواقف حُسْن الظَّن بالله، وهذه القصَّة تُمثِّلُ كثيرًا من الآلام التي نراها في المجتمع خاصَّةً ألمَ الفَقْد، والبُعْد، والحُزْن؛ فعلاقةُ يعقوبَ بابنه يوسف علاقةٌ وثيقةٌ، لصغر سِنِّه، عن إخوته -وهي المرحلة التي يقترب فيها الآباء أكثر مِن أبنائهم- ولتميز يوسف عن غيره، ولما يَرى فيه من النَّجابة، وحسن التَّصرف، ويعقوب عليه السَّلَام أحَبَّ أبناءَه جميعًا، وسَوَّى بينهم، حَيثُ لم يتصرف تصرُّفًا فيه محاباةٌ ليُوسف، أو ظلم لإخوته؛ بَلْ كان الموقف الذي حصل بينهم بسبب الشيطان، {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، فابيضَّت عيناه من الحُزن، والبُكاء، وبُكاؤه عَلَى يوسف أمر فطري؛ لِأَنَّ في البُكَاء تسلية للمُبْتَلَى، فعِنْدَمَا فقد يعقوب ابنه يوسف، وبكى عَلَيْهِ، حذره مَنْ حَوله، رفقًا به، وشفقةً عليه بقولهم: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85]؛ أي: إنه قد يصيبه المرض، أو الموت من حُزنه عَلَى يوسف؛ فرَدَّ عليهم يعقوب عليه السَّلام محسنًا الظَّن بربِّه فقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86]، فعلاقة يعقوب بربِّه علاقةٌ قويةٌ، بَلْ قَاَلَ قولة الذي أجاد في إحسان الظَّن بربه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، امتلأ قلب يعقوب بالإيجابية والتفاؤل وحسن الظن بالله، وقد عَظُم الفرج عنده عِنْدَمَا فقد ابنه الثاني، ولم ييأس رغم فقده لاثنين مِن أبنائه؛ بَلْ حَذَّرَ أبناءَه من اليأس، فإحسانه الظَّن بربه جعله يتمثَّلُ هذا الكلام، ويأخذ بالأسباب في البحث عَنْهُمْ، قَاَلَ تَعَالَى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83]، فلم يفقد الأمل بَلْ دعا الله أن يأتِي بهم جميعًا،ووصِف الصَّبْر بالجميل؛ لأنَّه سالم مِن الجزع والسَّخط وعدم الاعتراض عَلَى قضاء الله، وتدبيره، فهو لا يزيد عَلَى البُكَاء والحُزن، وفي نهاية الأمر لم يخب حُسْن ظنِّه بربِّه؛ فردَّ عَلَيْهِ أولاده كُلُّهم، وهم عَلَى أكمل حال، وبلغ حُسْنُ ظنِّه بربِّه أن قَالَ: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94]، وذكَّرهم بحسن ظنِّه بربِّه فقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96]، وابيضاض عينَي يعقوب عليه السلام من الحُزْن ليس منافيًا للصَّبر؛ لأنَّه لايعرف مَكانَ ابنه، فطولُ الانتظار، وعدم المعرفة بِأَنَّهُ حي أو ميِّت، سبَّب له هذا الأمر، ولكنه يملك إحساسًا بأنَّه حيٌّ، فلو أنَّه علم أنَّ ابنه قد مات؛ فلن يحزَن؛ لأنَّه راضٍ بقضاء الله وقدره، وما فعله يعقوب يجب أن نتحلَّى به في جميع ما يُصِيْبُنا مِن مصائب، يَجِبُ أَلَّا نُظهر الضَّعف، والانكسار للنَّاس، فاللّه يُحِبُّ أن يسمع تضرُّع عبده، ويشتاق إلى دعائه ومناجاته؛ لأن الله أرحم بنا من أَنْفُسنا، ويعقوب يعلم أنَّ الله قادر على أن يغيثه، وأَنَّ ما أصابه في أبنائه هو خيرٌ له، ويحتاجُ المرء مع ذلك إلى الصَّبر، والابتعاد عن الجزع.
ولو خُيِّر الإنسان في قدره أن يكون باختياره هو فلن يتعدَّى ما اختاره الله سُبْحَانَهُ له، فلو أنَّ امرأةً لم تُنجب، وعمرها قارب الخمسين عامًا، وتتمنَّى الولد، وأُخْبِرت بما قدر الله لها بأنَّها ستُرزق بولدٍ عاقٍّ لها طول حياتها، وسوف يقتلها، فهل ستقبلُ به؟ وهل ستندم أن لم يرزقها الله ولدًا طول هذه المدة؟ حتمًا ستتغيَّر نظرتُها، وستحمدُ الله عَلَى قضائه وقدره الذي قدَّره لها.
ولنعلم أنَّ المصائب التي تَقعُ – سواء كانت خاصَّة أو عامَّة – فيها خير، يقول تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11].
عِنْدَمَا يمنع الأب أو الأم أبناءَهما مِن شيء من المباحات مِن أجل مصلحتهم، يعتقد الابن بنظرته القاصرة أنَّ والديه لا يُحبونه؛ خَاصَّة إِذا كان الأبناء صغارًا، وهذه المصلحة تخفى عَلَى الأبناء، ولكنها ظاهرة لمن قام بمنعها. ولله المثل الأعلى، فالله سُبْحَانَهُ عِنْدَمَا يمنع شيئًا فقد يَكُون مَنَع أذى كثيرًا؛ حَيثُ أشار عدد من الآيات إلى أنَّ ما يُصيب الإنسان لَيْسَ شرًّا محضًا بَلْ فيه خيرٌ كثيرٌ، قَاَلَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وهنا لفتة جميلة في الحياة الأُسْريَّة، هُنَاكَ من يتوقَّف عند مُشْكِلة تحصل له، ويعتقدُ أنَّ كُلَّ طُرُق الحل أوصدت في وجهه، ويُصيبه القنوط في إمكانية الوصول إِلَى حل للمُشكلة، ويريد أن يتغانم شبابه ويُفكِّر أو تُفكِّر هي في الانفصال حَتَّى يَتِمَّ استغلال بقية الحياة، ومعنى الآية السابقة واضح جدًّا في عدم الاستعجال في إنهاء الحياة الزَّوْجِيَّة؛ فقد يجعل الله في إكمال الحياة خيرًا، وليس خيرًا فقط بَلْ، وكثيرًا، وليس كما صورناه لبُعدنا عن حُسْن الظَّن بالله. وكأنهم يقولون قولَةَ (قوم) موسى عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ولم يعوا ما قاله موسى عليه السَّلَام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فأنقذه الله وإياهم بأن جعل لقوم فرعون في البحر طريقًا (يبسًا)، فانطبق عليهم البحر، وأغرقهم، وأنجى الله موسى وقومه.
وقال الله سُبْحَانَهُ: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 115]، فنجَّى الله أولًا موسى، وأخاه، ثم عطف عليهما بـ (وَقَوْمَهُمَا)؛ فالنجاة بفعل صدق يقين موسى وأخيه عليهما السَّلَام.
ولا بُدَّ أن نَحْذَر كثيرًا مِن اليأس، يقول سُبْحَانَهُ: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
لم ييأس زكريا عَلَيْهِ السَّلَام من طلب الولد، فهو شيخ كَبِير في السِّنِّ، وهَن عظمُه، واشتعل رأسُه شيبًا، لا يُرجى منه الإنجاب، وامرأته عاقر، لا تلد، (اجتمعت كُلُّ أسباب المنع)، ولم يقْنط مِن رحمة رَبِّه؛ بَلْ دعا بالولد رغم كُلِّ هذه الموانع، فدعاه دُعاءَ المُوقنِ، والواثقِ في قُدرتِه، فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 4، 5]، وأثنى الله سُبْحَانَهُ عَلَى دعاء زكريا حَيثُ قَالَ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، فاستجاب الله له مباشرةً عَلَى ندائه الخفيِّ، فقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]؛ بَلْ مِن ثقته بربه، وحسن ظنِّه به، دعا أن يَكُون ابنه الذي لم يولد بعد (رضيًّا)، قَالَ تَعَالَى: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]، والرِّضا صفةٌ عجيبةٌ وجامعةٌ لخصال الخير.
خاتمة:
التَّفكير الإيجابي، والتحرُّر من السَّلبِيَّة القاتلة، وإبراز حُسْن الظَّن بالله، يَجِبُ أن يستصحبها الإنسان في جميع أموره، يقول الله سبحانه وتَعَالَى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87]، فالله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السَّماء، ثُمَّ يؤكد الله قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، ولعل الرَّدَّ يَكُون في الحديث الصحيح: «يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»؛ (البخاري: 7405).
ولا يُزعجك تأخُّر الفرج، فيوسف عليه السَّلَام خرج أخيرًا وتبوَّأ المنزلة الكبرى (عزيز مصر)، وأول من خرج صُلِب، ومن خرج مِن بعده أصبح ساقيًا للخمر عند الْمَلكِ، والسَّفينة التي خرقها الخضر تمر عليها السفن، ينظرون إليها بعين الشَّفَقَة والرحمة، ولم يعلموا أنَّها هي الوحيدة التي ستسلم، وتنجو مِن الاعتداء، فهذا هو قدر الله الجميل، سبقه حُسْنُ ظنٍّ بالله، يقول الشاعر:
وَإِنِّي لأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّنِي ** أَرى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ
وفقنا الله وإياكم إِلَى إحسان الظَّنِّ بالله، والصبر الجميل.
_________________________________________________
الكاتب: أ. عبدالله بن عبدالعزيز الخالدي
Source link