منذ حوالي ساعة
في الجنة تمر عليك مليارات السنين وأنت تزداد قوةً وشبابًا ونعيمًا وجمالًا، لا تنقص طول حياتك فيها من بهاء جسدك وفرح روحك، ليس هناك مرض ولا أي خوف من حصول أدنى مرض أو وباء.
لا شك أن هذه الحياة فيها من النعيم العظيم والعطاء الجزيل والحظ الجميل ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى، وقد ذكر الله تعالى أنه سيسألنا عن هذا النعيم الدنيوي فقال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].
لكن مما يجعل هذا النعيم لا شيء أمام نعيم الجنة فوارق كثيرة بينهما، من أهمها:
أن نعيم الدنيا لا يحصل عليه المرء إلا بعد جهد وعناء؛ فكم تذهب وتأتي وتعمل وتنشغل حتى تجد نعيم الدنيا؛ كم تخرج في حر الشمس لتحصيله؟! وتخرج في شدة البرد لتوفيره؟! كم تركت نعيم الفراش لتحصل على نعيم آخر ضروري لحياتك؟! كم تركت قرة عينك في بيتك من أهل وزوجة وأولاد وتفارقهم الوقت الطويل لتحصيله؟! كم تُصدَم برفقاء العمل أو عملاء التجارة من سوء أخلاق منهم أو تأخير ما يجب عليهم سداده لتحصل على نعيم الدنيا؟!
كم تجد أنانيًّا يقدم نفسه على نفسك ليؤخر نعيمك أو ينغص عيشك؟!
هذا وغيره الكثير من العناء قبل تحصيل المال الذي سيكون سببًا من أسباب نيل نعيمك الدنيوي.
ثم إذا قبضت حقَّك ومالك وأردت شراء وتحصيل بعض نعيمك الدنيوي؛ تأتيك أفكار؟ ماذا آخذ؟ وماذا أدع؟ وماذا يكفيني من كذا وكذا؟ وهل البضاعة التي آخذها جيدة أو مغشوشة؟ وهل تُعْجِب من أعيلهم من أب وأم وأخ وأخت وزوجة وأولاد؟!
وهل أقدر أن أوفِّ حاجة كل واحد منهم ما يؤمله مني؟! أم أنهم يشتهون أشياء ولا يخبرونني بها؛ بل ولا يفكرون في طلبها مني مراعاة لضعف دخلي أو حاجتي للمال؟!
فإذا انتهيت من شراء ما أُحَصِّل به بعض نعيم الدنيا خلال شهر تأتيك مشاغل إتمام ذلك النعيم مثل نعيم الطعام تحتاج لإتمام نعيمه عناء طبخ وانتظار نضجه، ثم تتلذذ به عدة دقائق، ثم يأتيك عناء رفع مخلفات طعامك والنظافة بعده؛ وكذلك أي نعيم يسبقه عناء ويلحقه عناء.
ومما يقلل عليك التلذذ بالنعيم في هذه الحياة حين تعرف ويعرف أولادك ومن تعيلهم أن بعض جيرانك وأصدقائك يأكل هو وأولاده أكلًا أجود وألذ مما عندك وعند زوجتك وأولادك؛ لكنك بذلت جهدك ورضيت بما قسم الله لك مع تمني أن تنتقل لوضع أحسن من وضعك.
وإن كانت توجد عند الأكثر قناعة، لكن المرء يحب أن ينتقل لحال أحسن من حاله، وأن يرزقه الله فضلًا فوق فضله.
وكذلك ما تتنعَّم به من لباس وأثاث ومركوب تفكر من انتهاء فترة صلاحه مع الاستخدام، وأنه ما يمر يوم إلا وصارت هذه الأشياء بعيدة من الأشياء الجديدة التي تشتهي توفرها لك.
في هذه الحياة كم تريد أن تلتقي بأخ وصاحب لتتنَعَّم بالجلوس معه والحديث معه، فيكلفك هذا جهدًا من وقت وعناء، وربما على حساب لقاء آخرين يحبون لقاءك والجلوس معك.
كم تتعب في حياتك هذه فيخرج منك عرق يؤذيك؟! وتتعب أحيانًا فتمرض بعد تعبك؛ وتتعب أحيانًا فيصيبك جرح وجروح؛ بل ربما يُبتر بَعْضٌ منك في عمل شاقٍّ من أجل تحصيل نعيمك.
وأما نعيم الصحة في هذه الحياة فالأكثر يشكي من نقصه وإن كان لسان حال أكثر المسلمين منهم (الحمد لله)، فالجسد لا يصبح ولا يمسي إلا متعبًا منهكًا من أمراض ظاهرة وخفية في أجساد أكثر الناس.
وإذا كان أحدُنا مريضًا وأراد تحصيل نعيم الصحة ذهب إلى المشافي وهو خائف من عدم نفع الدواء أو ضرر الدواء وضرر المداوي له بارتكاب خطأ طبي.
يهتم بتكاليف العلاج، ويبحث عن الأرخص له، ويتعب في البحث عن طبيب جيد مع تكاليف قليلة.
وكذلك التنعم بكل شيء في هذه الحياة يحتاج إلى جهد قبله وبعده؛ كالتنعم للزوجين ببعضهما، والتنعم برؤية أطفالك وهم كالدرر في البيت في أحسن هيئة تحبها لا بد لها من عناء.
وأكثر ما يعكر على المؤمن الصادق التنعم بنعيم الدنيا حينما يرى إخوانًا له يعيشون بلاءات عظيمة من جوع وقتل وتشريد.
فأي نعيم يطيب لمؤمن وإخوانه وأطفالهم ونساؤهم ما بين قتيل وجريح ومشرد وخائف وجائع.
أما نعيم الجنة فلا ولن تجد قبله أي عناء أو تعب أو بذل جهد؛ حتى التفكير بالنعيم لا تتعب فيه؛ تأتيك أرزاقك هناك بدون أي مَشقَّة ولا أي تأخير، تشتهي الشيء فيكون بين يديك. إذا اشتهت عيناك رؤية حبيب أو حبيبة لم تتأخر عنك لحظة واحدة. تأتيك زوجتك في الجنة على هيئة لم تخطر ببالك؛ كل مرَّة تأتيك بأحسن هيئة من المرَّة التي قبلها. وكذلك لا تلتقي بأحد من أحبابك في الجنة إلا وهو في أحسن هيئة يحبها وتحبها أنت. تلتقي بصديقك دون أي عناء بل الذهاب إليه نعيم، ولقاؤه نعيم، وفراقه نعيم لك وله لتنتقلا إلى نعيم أحب إليكما من الجلوس معًا.
لا تعاني في حصول لذتك من طعام وشراب ولباس ومسكن، لا تأكل شيئًا لم تشته نفسك، لا تأكل شيئًا وأنت تشتهي غيره، لا تأكل شيئًا تظن أن غيرك يأكل أحسن منه، لا تلبس شيئًا ترى غيرك لبس أحسن منه، لا تصدر منك إلا رائحة طيبة.
لا تمض في الجنة لحظة يأتيك بها ملل أو شكوى تأخر ما تشتهي أو انعدام نعيم سابق تريده يرجع.
يا أخي، في الجنة تمر عليك مليارات السنين وأنت تزداد قوةً وشبابًا ونعيمًا وجمالًا، لا تنقص طول حياتك فيها من بهاء جسدك وفرح روحك، ليس هناك مرض ولا أي خوف من حصول أدنى مرض أو وباء.
لا تتسخ هناك ثيابك ولا جسدك، لا يخرج منك الطعام بعد هضمه كما يخرج في هذه الحياة مؤذيًا لك ولغيرك؛ بل يخرج عرقًا رائحته كالمسك؛ ويخرج منك جشاء كالمسك يفوح من فمك. حتى من جوارك يتلذذ برائحة عرقك وجُشائك.
في الجنة تعلم أن إخوانك في نعيم ولا يوجد واحد منهم يشتهي ما عندك ولا تشتهي ما عنده؛ قد طابت أنفسكم جميعًا.
لا تسمع بها عن عناء لإخوانك إلا في بادئ الأمر حينما يعرف أهل الجنة أن إخوانًا لهم من أهل الإسلام دخلوا النار بمعاصيهم فيشفعون فيهم لتطيب أنفسهم في الجنة ويكون دخول إخوانهم الجنة بشفاعتهم نعيمًا فوق نعيمهم.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِن النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِن الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ… فما زالوا يخرجون أصحابهم من النار مرة بعد مرة حتى يقولون…رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا».
فتأمل حينها يزيد الله أهل الجنة نعيمًا إلى نعيمهم حينما يرون أن إخوانهم قد خرجوا من النار ودخلوا معهم الجنة؛ إذن ينعدم في الجنة كل شيء يحزن أهلها، ومن ذلك الحزن على إخوانهم الآخرين، وينعدم فيها أي عناء أو أي شيء ينكد عيشها ولو لحظة واحدة.
وما هذا الوصف إلا تقريب فقط لنعيم الجنة؛ وإلا فإنه كما وصفه الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
اللهم إنا نسألك الجنة وما قَرَّب إليها من قول وعمل.
________________________________________________________
الكاتب: فهد عبدالله محمد السعيدي
Source link