منذ حوالي ساعة
إن للكلمة أثرًا عظيمًا في النفس البشرية، فهي في قوّتها تفوق السلاح المادي، إذا إن السلاح مهما بلغت قوته يظلّ قاصرًا على إخضاع الأجساد والجوارح في أفعالها وحركاتها
{بسم الله الرحمن الرحيم }
بقلم: فادي عبد اللطيف
إن للكلمة أثرًا عظيمًا في النفس البشرية، فهي في قوّتها تفوق السلاح المادي، إذا إن السلاح مهما بلغت قوته يظلّ قاصرًا على إخضاع الأجساد والجوارح في أفعالها وحركاتها، عاجزًا عن إخضاع العقول والنفوس في تفكيرها وأحاسيسها ووجدانها.
لقد أعلى الإسلام من شأن كلمة الحق، وجعلها من أعظم الجهاد وأفضله، فقد روى أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام قال: «“ألا لا يمنعنّ رجلاً مهابةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا علِمَه، ألا إنّ أفضلَ الجهاد كلمةُ حقٍ عند سلطان جائر”» (رواه أحمد).
وذلك لما فيها من جرأة في موطن الخطر، ويترتب عليها تضحية بالنفس، وهي لذلك نادرة قلّ من ينهض لها. كما أنّ فضلها يعود لنفعها من نشر العدل وبسط الخير الذي يتعدى الأفراد ليشمل الأمة، وهو ما يستحق التضحية بالنفس في سبيله. إلا أنّ هذه التضحية نفسها ليست “خسارة” للقائم بها كما يظنّ البعض ويتوهم عوامّ الناس، بل إنّ صاحب الكلمة هو الفائز الأكبر، إنْ كلّفته كلمة الحق في سبيل الله حياته، فقد بشره الرسول عليه السلام بمرتبة لا يبلغها إلا قليلٌ من الآخرِين، فقد رُوَي عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال ” «سيّدُ الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» ” (رواه الحاكم).
ولذا لم يكن غريبًا أن يخشى الطغاة في كل زمان ومكان كلمة الحق، ويدأبوا على كبتها ومنع وصولها إلى آذان الناس وقلوبهم وعقولهم، خطابة كانت أم كتابة، وهم لا يزالون يحرصون على تشويه صورة دعاتها أو تعريضهم للمحن والإغراءات. ومع ارتقاء وعي الشعوب وتطور وسائل الاتصال والمعرفة، نرى النظم السياسية في العالم جميعها ـ الديمقراطية والملكية والعسكرية ـ تطوّر من وسائلها وأساليبها لمواجهة كلمة الحق، سواء كانت فكرة أو انتقادًا أو رأيًا مخالفًا، فتمنعها تارة وتحرف معناها تارة أخرى خشية أن تنتشر فتؤثر في وعي عامة الناس، أو تحرّك أوساطًا مؤثرة في المجتمع، كالمفكرين أو التجار أو العسكريين أو السياسيين، لكي تتحوّل بعدها إلى رأي عام يغيّر نظرة الناس أو سلوكهم تجاه السلطة أو نظام المجتمع أو الحكام، ما من شأنه أن يُفقِد النظامَ شرعيته أو يُفقدَ السلطة الحاكمة سندها. وعلى المدى البعيد يتحول هذا الوعي إلى طاقة كامنة تنتظر العمل تحت قيادة تسير بها نحو التغيير.
وإذا أُريد للكلمة أن تلقَى قبولاً في قلوب الناس وعقولهم، فلا بدّ أن يصاحبها أو يتبعها أفعال تعكس صدق قائلها وإيمانه بما يقول، وتجسّد ما يدعو له من معانٍ وقيم وتصورات في واقع الحياة المادية، فتنقلها من صورة في ذهن السامع إلى حركة يبصرها الناس ويحسونها، فيتأثرون بما تحمله من قيم التضحية والتفاني والإيثار، وتبعث فيهم الامل على تحقيقها في نفوسهم وإيجادها في واقع حياتهم، فيكتب الله سبحانه لهذه الكلمات الفعّالة أن تُحدِث هزة فكرية في عقول الخاملين، وخفقة أمل في قلوب اليائسين. ويتوقف تأثير الكلمة على مدى قوتها وصدقها، أي مطابقتها للواقع الذي يحسّه الناس أو يتصورونه، وما في ثناياها من معان بلغت دقتها في وصف الأشياء مبلغاً جعلها تلامس حسّ السامع أو القارئ فتهزه هزًا لا يقوى معه على المقاومة أو المكابرة، وتسوقه إلى الحق أسيرًا لما في نفسه من الصدق. ومن هنا كانت “الكلمة” و”الحق” متلازمتان لا تنفصلان في الواقع والشرع والتاريخ.
يقول سيد قطب، رحمه الله، في تفسيره:
“إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًا لما ينطق.. عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها.. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة”.
Source link