المسجد هو موطن التربية الإيمانية والروحية والخلقيّة والعلمية للطفل في مراحل تربيته ونشأته، فالمسجد من أقوى الأركان والدعائم في بناء المجتمع المسلم، فعندما جاء المعلم والمربي الأول نبي الإنسانية صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة كان أول ما أسس هو بناء مسجد قباء، وبعد انتقاله من قباء إلى المدينة كان أول أعماله كذلك بناء مسجده صلى الله عليه وسلم، وحمل أحجاره بيديه الكريمتين، فكان المسجد النبوي مدرسة الدعوة الإسلامية الأولى، ودار الدولة الإسلامية الكبرى، وكان المدرسة والجامعة، ومقر مجلس الشورى.
وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الدور العلمي لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامه رضي الله عنه: [ «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر حاج تاماً حجه» ](رواه الطبراني وحسنه الألباني).
وشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على استخدام الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس ـ سواء كانت بصرية أو سمعية، ومن أمثلة ذلك: ما رواه ابن مسعود بقوله: [خطَّ لنا رسول الله خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: {{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}} [الأنعام:153]، ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لحثَّ على استعمالها، وكان أول من يستعملها صلى الله عليه وسلم.
أبناؤنا والمساجد
ولا تتوقف أهمية المسجد بالنسبة للكبار فقط، وإنما كذلك لأبناء المسلمين الصغار، فيجب أن نربي أبنائنا على حب المساجد، واصطحابهم معنا إليها؛ ليتربّوا في رحابها، فتُهذّبَ أرواحهم، وتثقّف عقولهم، وتزكو نفوسهم، وعند سماع المؤذن ننصت ونردد مع المؤذن ونخبرهم فضل الترديد وراء المؤذن لما له من أجر عظيم، وأنه مقترن بالصلاة؛ حتى إذا ما تعود الصغير على ذلك صار الأذان والصلاة من أحب الأشياء إليه.
ويجب أن نذكر لأبنائنا فضل المسجد والصلاة فيه، وفوائد الخطى إلى المسجد، وفضل الصلاة في جماعة، وأن نعودهم على ارتياد المساجد؛ فقد جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» ](رواه أبو داود وصححه الألباني).
قال الشافعي في (المختصر): (وعلى الآباء والأمَّهات أن يؤدِّبوا أولادهم ويعلّموهم الطّهارة والصّلاة ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا”، قال أصحابنا: ويأمره الوليُّ بحضور الصلوات في الجماعة، وبالسِّواك وسائر الوظائف الدينية، ويعرِّفه تحريم الزّنا واللِّواط والخمر والكذب والغيبة وشبهها)(المجموع للنووي).
ويجب على الأب أن يلحق ولده بحلق تحفيظ القرآن الكريم، ويعلمهم القرآن، وفضل قراءة القرآن وأجر من حفظ القرآن كاملاً، وقد ترجم لها البخاري في صحيحه ((باب تعليم الصِّبيان القرآن)) وأخرج في صحيحه من رواية ابن عبّاس رضي الله عنهما فقال: «(توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم)» (رواه البخاري).
وقد أورد البخاري في صحيحه تحت باب “متى يصح سماع الصغير” عن محمود بن الرّبيع قال: ( «عقلت من النّبي صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مجّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو» )(البخاري)، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم، جواز إحضار الصبيان مجالس الحديث، وزيارة الإمام أصحابه في دورهم ومداعبته صبيانهم، واستدّل بعضهم على تسميع من يكون ابن خمس، ومن كان دونها يكتب له الحضور، وليس في الحديث ولا في تبويب البخاري ما يدل عليه، بل الذي ينبغي في ذلك اعتبار الفهم، فمن فهم الخطاب سمع، وإن كان دون ابن خمس وإلاّ فلا). وقال ابن حجر في الفتح (الظّاهر أنّهم أرادوا بتحديد الخمس أنّها مظنّةٌ لذلك لا أنّ بلوغها شرط لابدّ من تحققه والله أعلم)(فتح الباري).
وقريب منه ضبط الفقهاء سنّ التمييز بست أو سبعٍ، والمرجّح أنّها مظنّة لا تحديد، ومن أقوى ما يتمسّك به في أنّ المردّ في ذلك الفهم فيختلف باختلاف الأشخاص ما أورده الخطيب من طريق أبي عاصم قال:- ذهبت بابني _ وهو ابن ثلاث سنين _ إلى ابن جريج فحدّثه، قال أبو عاصم:- ولا بأس بتعليم الصبيّ الحديث والقرآن وهو في هذا السّن، يعني إذا كان فَهِمًا، وقصّة أبي بكر ابن المقري الحافظ في تسميعه لابن أربعٍ بعد أن امتحنه بحفظ سور من القرآن مشهورة)(فتح الباري).
وهذه نصيحة ثمينة من الإمام ابن باديس رحمه الله في الحرص على تلقّي العلم في المساجد وتربية الأبناء على ذلك فقال: “إذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم، فإنّ العامّة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظّ وافر، وتتكوَّن منها طبقة مثقفة الفكر، صحيحة العقيدة، بصيرة بالدِّين، فتكمل هي في نفوسها ولا تهمل تعليم أبنائهم، وهكذا ينتشر التعليم في الأمّة ويكثر طلاّبه من أبنائها… أما إذا خلت المساجد من الدروس، كما هو حالنا اليوم – في الغالب – فإن العامة تعمى عن العلم والدين، وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه… وتُمسي والدين فيها غريب).
فيجب أن نحضر بأبنائنا دروس العلم في المساجد، ونعلمهم العقيدة الصحيحة، وكيفية الوضوء والآداب والأخلاق الفاضلة من حسن جوار، وبر للوالدين، ورحمة الأيتام والمساكين، والرحمة بالحيوان، والصدقة وفضلها، ونعلمهم حب الله ورسوله، وحب القرآن والسنة النبوية، وحب الناس الصالحين خصوصاً من أهل العلم، ويجب أن نحذرهم من الغلو والتعصب، وأيضاً من الكذب والنميمة والغيبة، وما هي عواقبها الوخيمة عند الله جل وعلا.
والأهم من ذلك يجب أن نغرس في قلوبهم حب العلم وفضله، وفضل أهل العلم وما إلى ذلك من أفعال الخير، ويجب أن نعلمهم الآداب والأخلاق التي يجب أن نتحلى بها في بيوت الله، ويجب أن نكون نحن الكبار قدوة لأبنائنا الصغار في التحلي بالأخلاق وآداب المسجد وحسن تلقي القرآن ولين الجانب.
وفي المسجد يتدرب الصغار على فعل الطاعات لما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم عنايتهم بذلك الأمر، فعن الرُّبيِّع بنت معوّذ ابن عفران رضي الله عنها، (عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه. فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار)(رواه البخاري ومسلم).
قال النووي مبيِّنًا ما يستفاد من الحديث: ((في هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلّفين)).
ومما أثر عنهم أيضا في هذا الباب ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب العيدين، باب خروج الصبيان إلى المصلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [ «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى ثم خطب ثم أتى النّساء فوعظهن وذكّرهن وأمرهن بالصدقة» ](رواه البخاري). قال العيني: (مطابقته للترجمة من حيث إنّ ابن عباس رضي الله عنهما كان وقت خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العيد طفلا؛ لأنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان ابن ثلاث عشرة سنة)(عمدة القارئ 2/297).
ولكن إذا أحدث الطفل ضجة في المسجد فلا يعامل بقسوة وشدة فربما خرج من المساجد وكره دخولها، بل يجب أن يعلم بلين ولطف، فلا يجوز تركهم مشردين في الأزقة محرومين من نعمة المسجد الذي هو بيت الله وعش المؤمن ومدرسته العملية، والطفل إذا شب على شيء شاب عليه.
ولقد كان الأطفال يأتون المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرعى شئونهم ويتلطف بهم، أما اليوم فترى مقابلة بعض رواد المساجد للأطفال قاسية للغاية دون نصح أو إرشاد، ظناً منهم أن هذا يخدم المسجد ليكون نظيفاً؛ وقد أدت هذه الظاهرة إلى هجرهم المساجد وذهابهم إلى أماكن اللهو، ولاجتذابهم من جديد إلى المساجد لابد للكبار من النصح اللطيف والموعظة الحسنة، وبسط الجناح وإشعارهم بالعطف والحنان؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الأطفال من المساجد [ «حتى أنه صلى الله عليه وسلم نزل من فوق المنبر في أثناء الخطبة لما رأى الحسن والحسين عليهما السلام، وقبلهما ثم عاد إلى خطبته» ](الترمذي والحاكم)، ولما جاء في الحديث عن أبي الله هريرة – رضي الله عنه – قال:- [ «كنَّا نصلي مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم – العشاء، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، وإذا رفع رأسه أخذهما بيده من خلفه أخذًا رفيقًا، فوضعهما وضعًا رفيقًا، فإذا عاد عادا، فلما صلى وضعهما على فخذيه» ](رواه أحمد والحاكم).
ومن هنا فالواجب أن نستعين بكل وسيلة من شأنها أن تشوق الطفل إلى المسجد وتحببه إليه، ونحذر من كل أسلوب من أساليب التنفير من المسجد، ولا عبرة للذين يرون إبعاد الأطفال وأبناء المصلين عن المساجد ـ وخاصة إذا وجد من يهتم بهم وينظم وجودهم ويعلمهم ويربيهم ويرشدهم ـ ذلك أن مفسدة انحراف الأطفال بإبعادهم عن المساجد أخطر من مصلحة الحفاظ على أثاث المسجد أو الهدوء فيه.
ومما يذكر أنه ضاقت المساجد بالصبيان، حتى اضطر الضحاك بن مزاحم معلمهم ومؤدبهم أن يطوف عليهم بدابته ليشرف عليهم، وقد بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي، وكان لا يأخذ أجراً على عمله. ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء
اجراءات ضرورية
ولتحقيق تربية الأطفال وتكوينهم من خلال المساجد لابد من اتخاذ بعض الإجراءات من القائمين على المساجد ومنها:-
1) أن يشجعوا الآباء لاصطحاب أبنائهم إلى المساجد وتعليمهم النظافة والنظام، وأن يراقبوهم ويوجهوهم لما فيه صالحهم.
2) أن يجد الأطفال والصغار من يرشدهم وينظم جلوسهم، ويقيم لهم الأنشطة التي تتفق مع أعمارهم.
3) أن يتحبب العاملون في المساجد للأطفال وأبناء المصلين بالبسمة ورحابة الصدر، وأن يجذبوهم للمساجد ولا ينفروهم منها.
وفي النهاية نقول: إن المسجد دوره لا يقل أهمية عن دور الأسرة والمدرسة في تربية النشء وإخراج جيل ينفع نفسه ودينه ووطنه.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
Source link