الحديث عن حُسْن الظَّنِّ بالله تعالى هذا مقامه، وهذا زمانه، لا سيَّما وقد وقع الشك والرِّيبة في قلوب كثير من الناس الذين يخشَون على أرزاقهم، ويقلقون على مستقبلهم، كيف سيعيشون “فاللهم إني أسألك صِدْقَ التوكل عليك، وحُسْن الظَّنِّ بك”
عبادَ اللهِ، فالحديث عن حُسْن الظَّنِّ بالله تعالى هذا مقامه، وهذا زمانه، لا سيَّما وقد وقع الشك والرِّيبة في قلوب كثير من الناس الذين يخشَون على أرزاقهم، ويقلقون على مستقبلهم، كيف سيعيشون؟ وكيف سينفقون على عيالهم؟ كيف؟ وكيف؟ فأقول لك أخي الحبيب: ينبغي أن تُحْسِنَ ظنَّك بالله، مهما تكالبت عليك هموم الدنيا؛ فإن لك ربًّا رحيمًا، فلا تقلق، قال الله تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87]، فماذا تعتقد أيها الإنسان في ربك؟ ما هو ظنُّك في الله؟ فإن الله عز وجل يعامل العبد بمقتضى ظنِّه به، فكما تظنُّ بالله ستجد ذلك.
ومعنى حُسْن الظَّنِّ بالله تعالى: الثقة بالله، وحسن التوكل عليه، والرضا بأقداره، والتسليم لتدابيره، والاطمئنان لأفعاله، والسكون لأحكامه؛ ولخَّصه بعضهم فقال: “توقُّع الجميل من الله تعالى”؛ وذلك بأن يظن المؤمن المغفرة له إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية.
وحُسْن الظَّنِّ بالله تعالى من صميم التوحيد، وأهم واجباته، وهو من عبادة الله تعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن حُسْنَ الظَّنِّ بالله تعالى من حسن العبادة»؛ (رواه أبو داود، والترمذي).
ومن أحْسَنَ ظنَّه بالله تعالى، كان الله تعالى له كما ظنَّ، والعكس بالعكس.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً».
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فلْيَظُنَّ بي ما شاء»؛ (رواه أحمد).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي؛ إنْ ظَنَّ بي خيرًا فله، وإن ظَنَّ شرًّا فله»؛ والمعنى: أعامله على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر.
وفي رواية لمسلم: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فإنْ ظَنَّ بي خيرًا فله الخير، فلا تظنوا بالله إلا خيرًا».
وفي رواية: «فإنَّ قومًا قد أرْدَاهُم سُوءُ ظنِّهم بالله عز وجل؛ فقال الله» : {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23]».
فهذه الأحاديث من أحاديث الرجاء العظيمة التي تحث المسلم على حُسْن الظَّنِّ بالله جل وعلا، والإكثار من ذكره، وبيان قرب الله من عبده إذا تقرب إليه العبد بأنواع الطاعات.
فهو من أفضل عطايا الرب لعبده؛ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “والذي لا إله غيره، ما أُعطِيَ عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسْن الظَّنِّ بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يُحْسِنُ عبدٌ بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه؛ ذلك بأن الخير في يده”.
ورأى عمار بن يوسف حسنَ بن صالحٍ في منامه، فقال له: “قد كنت متمنِّيًا للقائك، فماذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشِرْ، فلم أرَ مثل حُسْن الظَّنِّ بالله عز وجل شيئًا”.
الوقفة الثانية: أوقات وأحوال يتأكد فيها حُسْن الظَّنِّ بالله:
حُسْن الظَّنِّ بالله ينبغي أن يُصاحِبَ العبدَ كلَّ حياته وفي كافة شؤونه، لا يفارقه لحظةً واحدةً، ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؛ وهو القائل: «يا حيُّ يا قيُّومُ، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تَكِلْني إلى نفسي طَرفَةَ عينٍ»، فإذا كان هذا تعلقه بالله وحسن ظنه، فنحن أولى وآكدُ.
غير أن هناك أوقاتًا وأحوالًا يحسُن بالعبد أن يحُسِنَ الظَّنَّ فيها بربِّه جل جلاله؛ ومنها:
عند دعاء الله تعالى، وسؤاله إياه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة»، فإذا دعاه وسأله، فَلْيُحْسِنْ ظنَّه بأنه موقن أنه قادر على تحقيق ما سأل، مجيب لما دعاه وأمل، يسمع مناجاته، ويدرك خواطره، ولو لم يفصح عنه لسانه، أو يبين به قلمه، يجيب دعوة من طلبه، ويحقق أمنية من رجاه، ويُلبي سُؤلَ مَن أمل فيه؛ لذا كُنْ موقنًا بإجابته.
واحذر كل الحذر مِنْ تَرْكِ الدعاء واستعجال الإجابة، فإنها قد تتأخر لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَلْ؛ يقول: قد دعوت ربي، فلم يستجِبْ لي».
عند فعل الواجبات والطاعات، وأداء القربات:
• فيُحسن العبد الظن بربه؛ بأنه سيقبلها منه مع صغرها ولن يضيعها، وسيُثيبه عليها من فضله الواسع؛ كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
عند الصدقات والإنفاق في سبيل الله تعالى:
فمن حُسْنِ ظنِّك بالله أن تبذُل وتقدِّم في وجوه الخير؛ ثقةً بما عند الله، وأنه سيخلُف لك النفقة، وأنه سيبارك لك فيما أبقى؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
• وأما سوء الظن بالله، فإنه يدعو إلى الشُّحِّ والبخل؛ كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
عند التوبة: فيُحسن العبد ظنه بربِّه متى تاب، وصدق في توبته، وأنه سيتوب عليه مهما كانت غَدَرَاتُه وفَجَرَاته، وإذا استغفره فسيغفر له على ما كان منه، ولو كانت ذنوبه مثل زَبَدِ البحر، أو بلغت عَنان السماء، أو عدد رمال الصحراء؛ فعن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا بنَ آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء، ثم استغفرتني، غفرتُ لك، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لَقِيتَني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرةً»؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
وتأمل إلى حال الثلاثة الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، كيف غفر لهم لما أحسنوا الظن بربهم؛ كما قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، وتأمل في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} ، فلما أحسنوا الظن بالله رزقهم الله إياه.
عند نزع الموت وسكراته؛ وهو أشدها وجوبًا وأعظمها أهميةً:
ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحسِن الظَّنَّ بالله عز وجل»؛ أي: يحسن ظنه بمن هو وافد عليه، وقادم إليه، يثق أنه سيقدم على من سبقت رحمته غضبه، سَيَفِدُ على البَرِّ الرحيم، والعفوِّ الكريم.
وبعض العلماء قالوا: يغلب جانب الخوف في حال الصحة، ويغلب جانب الرجاء عند الموت؛ لأنه في حال الصحة يحتاج إلى ردع وزجر، ويغلب جانب الخوف حتى يصل إلى مأمن.
وعن أنس رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب، وهو في الموت، فقال: «كيف تجدك» ؟» قال: والله يا رسول الله، إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمَنَهُ مما يخاف»؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
الوقفة الثالثة: فوائد وثمرات حُسْن الظَّنِّ بالله:
أيها المسلمون عباد الله، فإن تحقيق حُسْن الظَّنِّ بالله تعالى تترتب عليه فوائد جليلة، وثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة؛ ومنها:
1- أن من حقَّق حُسْن الظَّنِّ بالله تعالى فقد حقق كمال الإيمان، وسلِم من الكفر والنفاق والبهتان.
• قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6]، ووصف المنافقين بقوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154].
2- يغفر الله تعالى لصاحبه ويتجاوز عنه؛ قال سهل القطعي رحمه الله: “رأيت مالك بن دينار رحمه الله في منامي، فقلت: يا أبا يحيى، ليت شعري، ماذا قدِمتَ به على الله عز وجل؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة، فمحاها عني حُسْن الظَّنِّ بالله”؛ (رواه ابن أبي الدنيا).
3- أن من حقق حُسْن الظَّنِّ بربِّه، أعطاه الله ظنَّه، وحقَّق له مراده.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: أنا عند ظنِّ عبدي بي، إن ظنَّ بي خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “والذي لا إله غيره، لا يحسن عبدٌ بالله عز وجل الظنَّ إلا أعطاه الله عز وجل ظنَّه؛ ذلك بأن الخير في يده”؛ (رواه ابن أبي الدنيا).
4- حُسْن الظَّنِّ يسهل العبادة على صاحبه، ويرزقه العون والتوفيق.
• قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45، 46]، وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
• قال الحسن البصري رحمه الله: “إن المؤمن أحْسَنَ الظَّنَّ بربِّه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن فأساء العمل”؛ وهذا مصداق قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} [فصلت: 23].
5- حُسْن الظَّنِّ ينجِّي صاحبه يوم القيامة:
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 19 – 22].
ونختم بهذه القصص والمواقف المشرفة في حُسْن الظَّنِّ بالله تعالى.
فهذا إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، قال كلمةً تجسَّد من خلالها حُسْنُ الظَّنِّ بربه، وقوة توكله عليه، وأنه قطع الأسباب كلها إلا حبل الله، وأغلق الأبواب جميعها إلا باب الله؛ إنها كلمة “حسبي الله ونعم الوكيل”، فماذا كان نتيجة حسن ظنه بربِّه تعالى؟ يأتي الأمر السريع، من رب سميع: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69، 70].
وتتربَّى في هذا البيت الإيماني زوجته هاجر عليها السلام لتضرب المثل في الثقة، وحُسْن الظَّنِّ بالله تعالى؛ وذلك لما أوحى الله تعالى لإبراهيم أن يهاجر بها ورضعيهما إسماعيل ليُسكنهما مكة، فنفذ الأمر ووضعهما هناك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبِعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، “قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا”، فماذا كان نتيجة حسن ظنها بربها تعالى؟ نبعت من تحت قدمي رضيعها ماء زمزم، وبُنِيَ عندهم البيت الحرام، وجعله الله تعالى محلًّا تشتاق إليه القلوب؛ كما قال تعالى: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وهذا يعقوب عليه السلام عندما فَقَدَ أحبَّ أولاده إليه -يوسف وأخاه- فلم ييأس، ولم يقنط من رحمة الله تعالى: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فماذا كان نتيجة حسن ظنه بربه تعالى؟ رجع إليه يوسف عليه السلام وهو عزيز مصر؛ كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].
وهذا موسى عليه السلام يخرج بقومه ليلًا، فيلحقه فرعون ويدركه عند البحر، وفي الساعة الحرجة والموقف العصيب يسأله قومه عن المخرج من هذه المحنة، فيجيبهم وهو ساكن القلب رابط الجَأْشِ، ويصوِّر الله المشهد بقوله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]، فماذا كان نتيجة حسن ظنِّه بربِّه تعالى؟ قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 63 – 67].
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يأتيه أمْرُ الله تعالى بالهجرة إلى المدينة، فيصطحب معه أبا بكر رضي الله عنه، فتوجَّها نحو غار ثور ليُقيما فيه أيامًا، فتخرج قريش بغيظها وحَنَقِها باحثةً عنه في كل مكان، وتوقَّعت أن يتخذ من الغار ملجأً، فتوجهت صوبه، ووقفوا على باب هذا الغار في لحظة تتقطع لها الأنفاس، وتنفرط لها العقول، وتتجمد منها الدماء؛ ويصور الله ذلك بقوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
وعلى هذه الثقة سار أصحابه وتربَّوا وتخلَّقوا بها؛ فكانوا يقينًا يفيض، وثقةً تنبع؛ ففي معركة الأحزاب لما سمعوا بتحزُّب القوم عليهم، وتكالبهم، وما قاموا به من حصار على المدينة صوَّر الله حالهم قائلًا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقولهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وكان من دعاء بعضهم كما قال سعيد بن جبير رحمه الله: “اللهم إني أسألك صِدْقَ التوكل عليك، وحُسْن الظَّنِّ بك”.
فاللهم إنا نسألك صِدْقَ التوكل عليك، وحُسْنَ الظَّنِّ بك.
Source link