قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم – عبد الله بن جار الله الجار الله

من غضَّ بصره أنار الله بصيرته، ولما أمَر الله المؤمنين بغض أبصارهم، وحفظ فروجهم، أَمَر المؤمناتِ بذلك، وألاَّ يُظهرن ما يدعو إلى الافتتان بهنَّ من الزينة والحُلي

البصر مِن نِعم الله العُظمى، التي أنعم بها على الإنسان لكي يشكرها، ويتمتَّع بها في شؤون حياته، ويستعين بها على أمور دينه ودنياه، ولا يعرف قدرَ هذه النعمة حقَّ المعرفة إلا مَن ابتُلي بذَهاب بصره، والبصر أداةُ خير إذا استعمل فيما شُرِع له النظر إليه، والتفكُّر فيه {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، وقد يكون وسيلةَ شرٍّ على صاحبه إذا استعمله في المحرَّمات، والنظر إلى العورات، وفضول زِينة الحياة الدنيا نظرة إعجاب {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]؛ لذا أمر الله المؤمنين بالغضِّ من أبصارهم، فقال – تعالى -: مخاطبًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 30، 31]، فأمر المؤمنين بما يمنعهم من الوقوع في ما يخلُّ بالإيمان، وهو غضُّ الأبصار عن النظر المحرَّم إلى العورات، وإلى النِّساء الأجنبيات، ولَمَّا كان إطلاق النظر وسيلةً إلى الوقوع في الزِّنا، أمر الله بحفظ الفروج – بعد الأمر بغض البصر – عن الوطء المحرَّم في قُبل أو دُبر، وعن التمكين من مسِّ الفُروج، والنظر إليها، وأخبر أنَّ غضَّ الأبصار، وحفظ الفُروج أطهرُ وأطيب، وأنْمَى للأعمال، فإنَّ مَن غضَّ بصره، وحفظ فرجه، طُهِّر من الخبث الذي يتدنس به أهلُ الفواحش، وزكَتْ أعماله بسبب ترْك المحرَّم الذي تطمع به النفس الأمَّارة بالسوء، وتدعو إليه، فمَن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، ومن غضَّ بصره أنار الله بصيرته، ولما أمَر الله المؤمنين بغض أبصارهم، وحفظ فروجهم، أَمَر المؤمناتِ بذلك، وألاَّ يُظهرن ما يدعو إلى الافتتان بهنَّ من الزينة والحُلي، والثياب الجميلة، وجميع البدن، إلاَّ ما ظهر منها، كالثياب الظاهرة التي لا يُمكن إخفاؤها[1]، فكما أنَّه يجب على الرجل أن يغضَّ بصرَه عن النساء، فكذلك المرأة يجب عليها أن تغضَّ طرْفَها عن الرجال، فقد دخل ابن أمِّ مكتوم الأعمى على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده امرأتان من نسائه، فأمرهما بالاحتجاب منه، فقالتَا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يُبصِرُنا ولا يعرفنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «أفعمياوانِ أنتما، ألستما تبصرانه» ؟!))[2]، فإذا وجب الاحتجابُ عن الأعمى، فكيف بغيره؟! والنظرة بمنزلة الشرارة من النار تسري في الحشيش اليابس، فإنْ لم تَحرقه كلَّه أحرقت بعضه، وبمنزلة السَّهم من الرمية كما قيل:

كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَــــــرِ   **   وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ 

كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا   **   فَتْكَ السِّهَامِ بِلاَ قَوْسٍ وَلاَ وَتَـــــرِ 

يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَــــــــــــهُ   **   لاَ مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّظــــــرَرِ 

 

ولَمَّا كان النظرُ من أقرب الوسائل إلى المحرَّم اقتضتِ الشريعة الإسلامية تحريمَه، وإباحته في مواضع الحاجة كنَظر الخاطب إلى مخطوبته، وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النظر سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، فمَن غضَّ بصره عن محاسِن امرأة أورثَ الله قلْبَه حلاوةً يجدها إلى يوم يلقاه».

 

وقال جرير بن عبدالله: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بصري[3]، ونظرة الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصْد من الناظر، فما لم يتعمدْه القلب لا يُؤاخذ عليه، فإذا نَظَر ثانية متعمِّدًا أَثِم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند نظرة الفجأة أن يصرفَ بصره، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامتَه كتكريره.

 

ففِتنة النظر أصْلُ كل فتنة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنهما -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرِّجال من النساء»، وفي الصحيح: «كُتِب على ابن آدم حظُّه مِن الزِّنا، أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني، وزِناها النظر…» الحديث))[4]، فالعين تعصي بالنظر المحرَّم، وذلك زناها، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عليُّ، لا تتبع النظرةَ النظرة، فإنَّ لك الأولى، وليست لك الآخِرة»[5]، وكلَّما تواصلتِ النظرات كانت كالماء يَسْقي الشجرة، فلا تزال شجرةُ الحُبِّ تَنْمي، حتى يفسد القلب، ويُعرِض عن الفِكر فيما ينفعه، فيخرج بصاحبه إلى الِمحن، ويُوجِب له ارتكابَ المحظورات والفِتن، ويُلْقي القلْب في القلق، والسبب في هذا: أنَّ الناظر الْتذَّتْ عينه بأول نظرة، فطلبت المعاودةَ كأكْل الطعام اللذيذ إذا أكل منه لُقْمة، ولو أنَّه غضَّ بصره أولاً لاستراح قلبه.

 


[1] “تفسير ابن سعدي” (5 /201 – 202)، ط-1.

[2] رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

[3] رواه مسلم.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] رواه أحمد.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

أنتبه: أنت في الأشهر الحرم

منذ حوالي ساعة فوصيتي لنفسي ولإخواني ونحن في أيام حرم : خذوا حذركم من الذنوب والخطايا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *