التسبيح المعتبر شرعا.. – طريق الإسلام

فيكون التسبيح المعتبر شرعا هو إبعاد القلوب والأفكار والاعتقادات والأعمال والأقوال عن أن تنسب إلى الله النقائص والعيوب والتمثيل والتشبيه مع تعظيمه

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
التسبيحُ من المصادرِ السيالةِ التي توجدُ شيئا فشيئا، ولا يمكن أن توجدَ بجملتها في وقت واحد لا من حيثُ اللفظُ كما دلت عليه صيغةُ سبح وهي على وزن فعّل التي تفيد التكثير والتكرير والمبالغة والتتابع على فترات وكما دل عليه قوله تعالى { (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا) } وقوله {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)} ولا من حيث المعنى لأن التسبيح تنزيه وإبعاد الله عن النقص واثبات صفات الكمال له، فقوله {(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)} سبح فيه معنى الفعل المجرد اللازم تمت تعديته بنفسه بتضعيف عينه لإفادة تحصيل تمام المطلوب كماله دلالة على عظم شأن الفعل ولإفادة معنى التوجه إلى الشيء قبولا له وعناية به مع ملاحقة تنزيله وحفظه، وقد يتعدى سبح باللام كما في قوله { (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)} فتكون اللام لتأكيد الفعل وتقوية معانيه أو تكون للتعليل أي لأجل الله وابتغاءً لوجهه أو تكون للاختصاص ولبيان القصد والإخلاص مع كمال إرادة واستحقاق الطاعة والخضوع لله، وقد يتعدى سبّح بالباء كما في قوله {(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)} لإفادة المصاحبة والاستعانة والسببية والتأكيد، و يُجمع لفظ التسبيح على تسبيحات وتسابيح وله معنيان في اللغة: أحدهما بمعنى التنزيه والتبرئة من السوء فيكون الفعل منه متعديا ومدلوله معنويا، والثاني بمعنى قول سبحان الله وتأويله تنزيه وتبرئة الله من السوء فيكون مدلوله قولي لفظي وفعله لازم، وينحت على سبحل سبحلة اختصارا لحكاية الكلام، وأصل اشتقاق التسبيح لغة من السبح وهو البعد والإبعاد فيقال سبحت في الارض وفي السير وفي الماء وفي ملكوت الله وفي الفكر والخيال بمعنى أبعدت وتباعدت عن محل انطلاقها وغصت فيها، والمناسبة بين هذه المعاني والتسبيح أن السابح ينجو من الغرق في هذه المذكورات كما ينجو المسبح لله من الشرك ويحيى بالذكر وتعظيم الله، وقد يشتق من الجري والمر السريع المتكرر {(وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ، كُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ)} أي يجرون والتسبيح مأخوذ أيضا من التنزيه ومن النزهة ، فيقال رجل نزيه أي بعيد عن السوء، فكل معاني التسبيح ترجع إلى البعد والإبعاد، قال الماوردي ( التسبيح وهو من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات) ويقول ابن تيمية ( والأمر بتسبيحه يقتضي التنزيه والتعظيم، والتعظيم يستلزم اثبات المحامد التي يحمد عليها) والتسبيح شرعا هو تبرئة وتنزيه وإنكاف الله عزوجل عن السوء وفي الحديث ( وإذا مر بآية فيها تنزيه الله سبح) ولذلك قال ابن عباس (التسبيح تنزيه الله عزوجل عن كل سوء) تنزيه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله من كل عيب ونقص ومن تمثيله بمخلوقاته، لكنه تنزيه لا بد فيه من اثبات ما يليق بكمال الله سبحانه، فالتسبيح تعظيم وثناء ودعاء وذكر واستثناء وصلاة وعبادة «فأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ عزَّ وجلَّ، وأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وهناك ألفاظ قريبة فيها معنى التنزيه والتبرئة كالتقديس والسلام وتعالى وحاش لله والنفي في حقه سبحانه بأدوات النفي أو بالاستفهام، والتسبيح باعتبار معناه نوعان متلازمان لا يحصل تمام التسبيح إلا باجتماعهما :- تنزيه الله تعالى عن النقائص والعيوب – وتنزيهه عن التمثيل والتشبيه، فالله منزه أن يشارك المخلوق في خصائصه أو يشاركه المخلوق في خصائصه، وتمثيل المخلوق بالخالق في الافعال شرك في توحيد الربوبية، وتمثيل المخلوق بالخالق في الحقوق شرك في توحيد الألوهية، وإن تسبيح الله عن النقائص والعيوب يستلزم ثبوت الكمال له، وتسبيحه عن التمثيل والتشبيه يقتضي وحدانيته، فمن أثبت لله صفات الكمال والجلال ونفى عنه النقائص والتمثيل فقد أفرده بالكمال المطلق الذي لا يشركه فيه شيء، فالتسبيح توحيد بل أصل التوحيد لجمعه بين النفي والاثبات شأن كلمة التوحيد ولجمعه معاني التعظيم والخضوع والطاعة والعبادة والذكر والدعاء، ولذلك تجده يفرد أو يقرن مع الباقيات الصالحات وهو منها ومع اسماء الله وصفاته ومع الاستغفار ومع الدعاء، وأما التسبيح باعتبار فاعله فإن السبوح القدوس سبح نفسه مدحا لها وثناءً وتنزيها وتعظيما وفي الحديث القدسي «(سبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا)» وبتسبيح نفسه يتعرف إلى عباده ببيان ما يليق بكماله من أسماء وصفات وأفعال وما لا يليق به من النقائص والعيوب، وسبح نفسه إرشادا وأمرا لعباده ان يسبحوه تسبيحا لفظيا باللسان ومعنويا بالجنان وعمليا بالأركان، والملائكة يلهمون التسبيح لا يفترون كما نلهم نحن النفس والطرف، والتسبيح أمر به الأنبياء والمؤمنين أتباعهم من الجن والإنس تكليفا واختيارا، وتسبح لله السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا يفقه الناس تسبيحهم، فالتسبيح وظيفة مشتركة بين جميع الكائنات العاقل منها وغير العاقل، وغير العاقل تسبيحه تسخير معنوي بلسان الحال بظهور آثار الصنعة فيه وكونه من الدلائل الشاهدة على توحيد وعظمة خالقها وتنزيهه عن النقائص، وهو تسبيح حقيقي بلسان المقال مستمر في جميع الأوقات والأحوال، وإنه دعاء أهل الجنة {(دعواهم فيها سبحانك اللهم) } وتسبيحهم خالد بخلودهم يلهمونه ويتنعمون به، وأما حكم التسبيح من حيث الاعتقاد فاتفق العلماء قاطبة أنه فرض عين على المكلفين، وذهب أكثرهم أنه مندوب في الصلاة وخارجها، والصحيح الراجح أنه واجب في الصلاة وخارجها لماذا؟ لأن التسبيح تنزيه وتعظيم لله تعالى وهو واجب في كل الأوقات والأحوال ولأن الله سبحانه أمر به فقال {(فسبح باسم ربك العظيم) } والأصل في الأمر المجرد عن القرينة الوجوب، ولا يتحقق التسبيح والذكر إلا باللفظ الذي يواطيء الاعتقاد وذلك لأن اللفظ قالب المعنى والمطلوب قول اللسان بذكر لفظ الجلالة مع تنزيهه عن النقائص وإظهار ذلك ولأن قاعدة أهل السنة تلازم الظاهر والباطن فإذا كان الاعتقاد واجبا كان اللفظ الدال عليه واجبا فالتسبيح توحيد ومن أوجب الواجبات والتسبيحة صدقة واجبة على كل سلامى من بني آدم لكن الإكثار منه بحيث يغلب على اللسان يبقى مندوبا وفرصة للتنافس بين المكثرين ويسبق إليه المفردون إذا انتفت موانع الاتيان به أو زاحمه ما هو أوجب منه أو أفضل، وأما فضائل التسبيح فكثيرة منها أنه أحب الكلام إلى الله وأفضله اصطفاه الله لملائكته ولعباده، جنة من النار يحط الله به الخطايا وإن كثرت، ووسيلة لكسب الحسنات وغراس للجنة، ثقيل في الميزان خفيف على اللسان ومن أفضل ما يأتي به العبد يوم القيامة، فهو صلاة وذكر وعبادة تفتح لها أبواب السماء ولا تتناهى بل باقية في الجنة، مدح الله أهله ورفع ذكرهم ومقامهم وجعله عونا لهم على الصبر وزوال الكرب، به تطمئن القلوب ودليل إسلام واستسلام، لا أفضل منهم، تسبيحهم يعادل انفاق المال وجهاد العدو ومكابدة الليل، يجزئ عن القرآن لمن لا يستطيع شيئا منه، وأفضل التسبيح من حيث العدد «(سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)» ومن حيث النوع « (دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له)» ، وأما منزلة التسبيح في العقيدة فإنه أصل التوحيد بأنواعه لأنه نفي وإثبات وهو ثناء مشروع يستلزم الإيمان بل هو أصله ويزيد بزيادته وهو من دلائل حسن العقيدة التي لا تصلح إلا به فإنه لا يصف الله بالنقائص والعيوب إلا من كان عدوا له أو جاهلا به، وهو أيضا دال على أعظم أوصاف الله تعالى السُبُّوح المتعالي المبرَّأُ من النقائصِ والشريكِ، ومن كلِّ ما لا يليق بالإلهيةِ، والقدوسٌ السلام الُمطهَّرُ مِن كلِّ ما لا يليقُ بالربوبية، ولو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ( أي جلال وجهه ونوره العظيم) ما انتهى إليه بصره من خلقه ولذلك قال تعالى {(وسبحان الله وما أنا من المشركين)} ، وينبغي الإشارة إلى أنه ليس كل تسبيح يعتبر شرعي وإنما لا بد فيه من استحضار واعتقاد المعاني المذكورة سابقا والعمل بمقتضاها أي مواطئة القلب للسان فالتسبيح إيمان وتوحيد وعبادة توقيفية، فهو بهذا من أوفر الاذكار حظا في الإسلام
فيكون التسبيح المعتبر شرعا هو إبعاد القلوب والأفكار والاعتقادات والأعمال والأقوال عن أن تنسب إلى الله النقائص والعيوب والتمثيل والتشبيه مع تعظيمه وإجلاله واثبات صفات الكمال له والمحامد التي يحمد عليها والعمل بمقتضيات هذه المعاني .
(وكتبه محمد بن عبد الله يسير)


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

قول «ما شاء الله» لدفع العين بدعة !!

انتشر بين أهل هذا العصر بل حتى بين العلماء وطلبة العلم أن أحدهم إذا رأى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *