إن مما يغفُل عنه الناس اليوم أن يغيب عنهم ميزان الحق والعدل في أقوالهم وألفاظهم، فيحكمون على أناس من أهل الفضل والصلاح بكلمة لا يُلقُون لها بالًا؛ ابتغاء رضوان من هذا أو من ذاك.
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، في هذه الآية الكريمة تحذير للمؤمنين من إبطالهم لأعمالهم الصالحة، وهذا معناه أن يبقى المؤمن على حذر دائم من بطلان عمله، فكيف لعاقل حصيف أن يفعل ما من شأنه أن يذهب بكل بما جمعه من أعمال؟ وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الْمُفْلِس» ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار»، وكما قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
اعلموا – أيها المسلمون – أنه قد يكون بين الرجل وبين الكفر كلمة، أو ضحكة، أو غمزة بعين، أو إشارة بطرف.
واعلموا أن الله تعالى يقول عمن استهزؤوا بالمؤمنين المجاهدين في غزوة تبوك حين قالوا: “ما رأينا أكذبَ ألسنةً، ولا أرغب بطونًا، ولا أجبنَ عند اللقاء من أصحابنا هؤلاء”؛ يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما علِم بهم النبي صلى الله عليه وسلم، جاؤوا يعتذرون بأنهم كانوا يمزحون فيما بينهم، وإنما حديثهم مما يقطع به المسافر سفره الطويل؛ فنزل قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65، 66]، فقد كانوا يمزحون كما يقولون، ثم كان نتيجةُ مزحهم هذا الكفرَ بعد الإيمان.
إن النبي صلى الله عليه وسلم وسُنته وأصحابه ليسوا مجالًا للسخرية، ولا موضعًا للنكتة ولا المزاح، فلا تتعرض للحية فلان الطويلة، ولا لثوب فلان القصير، ولا تناديه بأبي عكرمة أو بأبي قتادة، فإن ذلك ضرب من ضروب السخرية بسُنة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقد يقول الرجل كلمة لا ينتبه لها تكون سببًا في هلاكه؛ كما جاء في الحديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد لَيتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم».
وفي رواية عند أحمد والترمذي: «إن الرجل لَيتكلمُ بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا».
وإن في كتاب الله تعالى لآيةٌ هي كالمراقب لكلام الإنسان وألفاظه؛ وهي قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
كل كلمة مسجلة، وكل كلمة لها ثمن، وقد يرتفع المؤمن بكلمة ويبلغ منزلة عالية بسبب كلمة قالها رضًا لله ولرسوله، وقد تكون الكلمة أيضًا سببًا للهلاك وللبوار.
إن مما يغفُل عنه الناس اليوم أن يغيب عنهم ميزان الحق والعدل في أقوالهم وألفاظهم، فيحكمون على أناس من أهل الفضل والصلاح بكلمة لا يُلقُون لها بالًا؛ ابتغاء رضوان من هذا أو من ذاك.
وكأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]، البهتان والإثم المبين هما نصيبه وجزاؤه لأجل كلمة ما أراد به وجه الله، ولعل هذا بالذات مما انتشر اليوم بين الناس، فلا يتثبتون من قول، ولا يأبهون لحكم يُطلقونه على غيرهم؛ مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
أيها المسلمون:
إن هذا الأمر – حبوط العمل – هو أمر خطير جدًّا لكل من كانت الآخرة همَّه، والجنة مطلبَه؛ فقد قال الله تعالى محذرًا عباده من ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 2، 3].
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية كما روى الإمام أحمد عن أنس قال: ((لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، إلى: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيعَ الصوت، فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبِط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينًا، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقَّدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر له بالقول، حبِط عملي، أنا من أهل النار، فأتَوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بما قال، فقال: لا، بل هو من أهل الجنة، قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظْهُرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنَّط ولبِس كفنه، فقال: بئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قُتِل)).
أيها المسلمون: إن العاقل ليكون ضنينًا بأعماله الصالحة، وبحسناته التي تعِب في اكتسابها أن تذهب لفلان أو فلان، ممن يعرف وممن لا يعرف، ممن تكلم فيهم أو اغتابهم أو نالهم بهمزٍ ولمزٍ.
إن الإنسان ليكون شحيحًا على ماله أن يأخذه الناس منه، وإنه ليغضب أشدَّ الغضب إن أُخِذ منه بلا علم منه، حتى لو كان الآخذ ابنًا من أبنائه، بل إن بعضهم من حرصهم على أموالهم يفكرون بها، حتى بعد موتهم: ما هو مصير أموالهم من بعدهم؟
أما الحسنات وهي الأهم، فلم يفكر بها أو لا يهتم لبقائها، وربما كان سبب هذا ومنبعه عدم تعظيم أوامر الله ونواهيه؛ كما قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، فإذا فرغ القلب من تعظيم الله وشرعه، استسهل المرء الوقوع في الإثم، وتراخى في أن يحفظ حسناته وثواب أعماله.
فقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر حبط عمله»، ومعناه: من تعمَّد تركها حتى يخرج وقتها بدون عذر، فقد حبط عمله، ولعل من المؤسف ألَّا يهتم المصلِّي لشأن الصلاة ووقتها، فيستوي لديه صلى الصلاة في وقتها أو خارج وقتها، بل ربما ذهب لنومه وأوصى أهله ألَّا يوقظوه من نومه حتى يستيقظ من نفسه، ولا يهم كم من صلاة ستفوت عليه، فمثل هذا يُخشى أن يكون ممن حبط عمله.
أيها المسلمون: وإن مما يُحبط العمل الصالح ويُبطله المنُّ والأذى به؛ فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، فحاول قدر ما تستطيع إخفاء أعمالك الصالحة، وإن ظهرت فلا تتحدث بها.
واحذر من مداخل الشيطان عليك، فهو إما أن يمنعك عن العمل الصالح، وإن فعلت حاول بك لتتحدث به زهوًا وإعجابًا؛ حتى يذهب أجره.
وقد تكلم الإمام ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) كيف يدخل الشيطان على الصالحين حتى تحبط أعمالهم.
وإن مما يُحبِط الأعمال اليوم كما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرَّافًا فسأله عن شيء، لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا».
واليوم قد شاع بين الناس الاهتمام بما يقوله العراف الفلاني أو الكاهنة الفلانية ممن يظهرون على القنوات الفضائية، ويهتمون بما يقولون عن الشخصيات أو الدول وما سيحدث فيها، والخطأ كل الخطأ في نشره أو تناقله في وسائل التواصل؛ فهو نشر للضلالة، وترويج للكذب على الله تعالى، فلا يعلم الغيب إلا الله، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
أيها المسلمون: ليكُنْ أعزَّ ما عليكم دينُكُم، واحرصوا ألَّا تُبطلوا أعمالكم ولا تذهب حسناتكم سُدًى، وكأنكم لم تعملوا شيئًا؛ واحذروا من قوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 3، 4]، فإنها كانت تعمل وتنصَب وتتعَب، ولكن النهاية كانت إلى النار الحامية، نسأل الله تعالى الإخلاص في القول والعمل، ونسأله تعالى القبولَ في الدنيا والآخرة.
______________________________________
الكاتب: ساير بن هليل المسباح
Source link