اعتناء السلف باستقبال رمضان – طريق الإسلام

فسيحل بنا بعد أيام – إن شاء الله تعالى – شهر رمضان المبارك، شهر الصيام، والقيام، والعتق من النار، شهر القوة الإيمانية، والسلامة البدنية، شهر الجود والبذل، شهر التزاور والتسامح، شهر التصالح مع الله

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

فسيحل بنا بعد أيام – إن شاء الله تعالى – شهر رمضان المبارك، شهر الصيام، والقيام، والعتق من النار، شهر القوة الإيمانية، والسلامة البدنية، شهر الجود والبذل، شهر التزاور والتسامح، شهر التصالح مع الله، والرجوع إلى الله، والتجاوز عن عباد الله، شهر ترفع فيه الأيدي بالدعوات، وتجأر فيه الألسن بطلب غفران السيئات، شهر تفضَّل فيه البارئ – جل شأنه – بفتح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتصفيد مردة الشياطين، وهيَّأ فيه الأسباب للسمو بأرواح المؤمنين، وتطهير نفوس المخبتين، شهر يفطن فيه المقصرون، فيتداركون ما فات من تهاون طَوَتْه السنون، ويستفيق فيه المعتدون، فيقلعون عما كانوا يجترحون.

 

عجبًا للبون الشاسع ما بين استقبال السلف لرمضان، وما بين استقباله من طرف بعض الخلف.

 

لقد كان السلف يفرحون بقدومه، ويحمدون الله على إدراكه، كيف لا وهو ركن ركين، يقوم عليه صرح الدين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت»؛ (متفق عليه).

 

فأعظِمْ بها من بشارة! يزفُّها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته حين قال لهم: «أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله – عز وجل – عليكم صيامه، تُفتَح فيه أبواب السماء، وتُغلَق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدة الشياطين، لله فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها فقد حرم»؛ (رواه النسائي).

 

• قال ابن رجب رحمه الله: كيف لا يُبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يُبشَّر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يُبشَّر العاقل بوقت يُغَلُّ فيه الشيطان، من أين يشبه هذا الزمانَ زمان؟.

 

فانظر إلى حال السلف في استقبالهم لرمضان، كيف كانوا يفرحون بقدومه، ويبتهجون بحلوله؟

 

• قال مُعَلَّى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبَّله منهم.

 

• وكان يحيى بن أبي كثير يقول: اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلًا.

 

• وقال ابن رجب: بلوغُ شهر رمضان وصيامُه، نعمة عظيمة على مَن أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استُشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فَرُئِي في النوم سابقًا لهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاةً، وأدرك رمضان فصامه، فوالذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعدَ مما بين السماء والأرض»؛ (رواه ابن ماجه).

 

أليس رمضان – إذًا – نعمة جليلة تستوجب الشكر؟

قال النووي رحمه الله: اعلم أنه يستحب لمَن تجددت له نعمة ظاهرة، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة، أن يسجد شكرًا لله تعالى، وأن يحمد الله تعالى، أو يُثني عليه بما هو أهله؛ [الأذكار].

 

كان لهم رمضان مدرسة لتعويد النفس على صيام النوافل الإضافية؛ لأنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»؛ (متفق عليه).

 

• وكان لهم رمضان مدرسة لتعويد النفس على القيام، لما يجلبه من نور في الوجه، وحب يُلقى في قلوب العباد.

 

• قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورًا يحبه عليه كل مسلم، فيراه مَن لم يره قط فيقول: إني لأحبُّ هذا الرجل.

 

• وقيل للحسن البصري رحمه الله: ما بال المتهجِّدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم من نوره.

 

• كانوا يعتبرون رمضان مدرسة للقرآن، تلاوةً، واستماعًا، وفهمًا، وتدبرًا، وعملًا.

 

• فقد كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع الأعمال، وأقبل على قراءة القرآن.

 

• وكان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة.

 

• وكان رمضان لهم مدرسة لإذابة الشُّحِّ من النفوس، والمسارعة إلى الجود والعطاء. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن. فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة؛ (متفق عليه).

 

وعند أحمد زاد: لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه.

 

• قال الإمام الذهبي: وبلغنا أن حماد بن أبي سليمان كان ذا دنيا متسعة، وأنه كان يُفطِّر في شهر رمضان خمس مائة إنسان، وأنه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم.

 

فالسلف في رمضان في تنافس في الخيرات، وتزاحم في القيام بالطاعات، وفي مضمار للفوز بالجنات.

 

• قال الحسن البصري رحمه الله: إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخَلَّف آخرون فخابوا. فالعجبُ من اللاعب الضاحك، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون.

 

أما عن حال السلف مع القرآن في رمضان: فهذا الأسود بن يزيد رضي الله عنه يُروى عنه أنه كان يعكف على القرآن في رمضان حتى يختمه كل ليلتين، وكذلك كان يفعل سعيد بن جبير.

 

وكان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة.

 

وهذا محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله كان يجلس بعد صلاة القيام ليختم القرآن كل ثلاث ليالٍ.

 

وهذا مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة كان إذا دخل عليه رمضان يقبل على تلاوة القرآن من المصحف، ويترك كل شيء حتى مدارسة الحديث، ومجالسة أهل العلم.

 

وهذا سفيان الثوري رحمه الله كان إذا دخل عليه رمضان أيضًا ترك كل مشاغل الدنيا وأقبل على قراءة القرآن.

 

وكان المازني البصري علَّامة زمانه في الفقه والنحو رحمه الله تعالى إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتًا من الشعر حتى ينتهي؛ وإنما كان شغله قراءة القرآن.

 

أما حال السلف مع القيام في رمضان: فلقد كانوا حريصين على قيام الليل، فهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان إذا هدأت العيون قام فيُسَمعُ له دوِيٌّ كدوِيِّ النحل حتى يصبح.

 

وكان طاووس رحمه الله إذا اضطجع على فراشه يتقلب عليه كما تتقلب الحبة على المقلاة، ثم يثب ويصلي إلى الصباح، ثم يقول: طيّر ذكر جهنم نوم العابدين.

 

وكان الحسن رحمه الله يقول: ما نعلم عملًا أشد من مكابدة الليل ونفقة هذا المال، فقيل له: ما بال المتهجِّدين من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره.

 

وكان عبدالعزيز بن رواد إذا جنَّ عليه الليل يأتي فراشه فيمد يده عليه ويقول: إنك لليِّن، ووالله إن في الجنة لألين منك، ولا يزال يصلي الليل كله. وكان الفضيل بن عياض يقول: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأصبح وما قضيت نهمتي.

 

أما حال السلف مع الصدقة في رمضان: فقد كانوا في سباق وتنافس على الإنفاق في وجوه الخير، وكان أحدهم يرى نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من حاجة الفقير المسكين إليها، قال الشعبي: مَن لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته، فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه. وكان ذلكم التسابق وهذا التنافس بينهم يزداد بحلول شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أكرم من الرياح المرسلة، يقول يونس بن يزيد وهو يصف حال ابن شهاب الزُّهْري المُحدِّث الشهير: كان ابن شهاب إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.

 

وكان إطعام الفقراء والجود عليهم سمة مألوفة عند الموسرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول: حضر رمضان ونحن في أهل الصفة فصمنا، فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلًا من أهل السعة فأخذه فانطلق به فعشَّاه.

 

بل إن بعضهم كان يجود بإفطاره الذي يُعِدُّه لنفسه، فهذا أحمد بن حنبل يأتي إليه سائل فيدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره، ثم يطوي ويصبح صائمًا، كما ورد أيضًا أن داود الطائي ومالك بن دينار كانا يؤثِران بفطورهما وهما صائمان.

 

وكان الشافعي يقول: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.

 

أما حال السلف مع الاعتكاف في رمضان: فقد روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حان العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه، وشد مئزره، واجتنب النساء، وجعل عشاءه سحورًا.

 

فكان السلف رحمهم الله يحرصون على الاعتكاف في رمضان اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخاصة في العشر الأواخر من رمضان.

 

أما أخلاق السلف في رمضان:

فقد كان من هديهم الصبر على الصوم مهما كان شاقًّا، فقد روي عن الأحنف بن قيس أنه قيل له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه.

 

ومع حرصهم على الاجتهاد في فعل الخير في رمضان إلا أنهم كانوا يكرهون التكلف فيه، جاء عن وهب بن جابر أنه قال: كنت في بيت المقدس فجاء مولى لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: إني أريد أن أقيم ها هنا شهر رمضان، فقال له عبدالله: تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: فارجع فاترك عندهم ما يقوتهم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَنْ يقوت.

 

كما كان من عادة السلف عدم الهزل في رمضان، والحرص على استثمار الأوقات، فقد جاء في إحياء علوم الدين أن الحسن البصري مرَّ بقوم وهم يضحكون فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخَلَّف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون.

 

هذا بالإضافة إلى حفظ سائر الجوارح عما نهى الله عنه، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء.

 

وكان أبو هريرة يقول: إذا كنت صائمًا فلا تجهل ولا تساب، وإن جُهِل عليك فقل: إني صائم.

 

أما حال السلف مع أولادهم في رمضان: فكانوا يقومون بتدريب أطفالهم على الصيام فإذا شَبُّوا ألفوه، فقد جاء عن عكرمة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نأخذ الصبيان من الكتاب فيقومون بنا في شهر رمضان، ونعمل لهم الخشكنانج (حلوى من السكر).

 

هذا هو حال السلف في رمضان، فلنقتدِ بهم، ولنجاهد أنفسنا على الاقتداء بهم، ونقول: الحمد لله على أن بلغنا رمضان ونحن أصِحَّاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التأسي برسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسلفنا الصالح في استثمار أوقاته فيما يرفع درجاتنا، وأن يوفقنا للعمل بما نعلم.

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

______________________________________________________
الكاتب: د. فهد بن ابراهيم الجمعة


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

آن أوان التوبة – طريق الإسلام

معاشر المؤمنين الكرام: العاقلُ من تفكّرَ في مصيره ومآله، فجدَّ واجتَهدَ في محاسبة نفسهِ وإصلاحِ أحواله، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *