منذ حوالي ساعة
في المقابل، نجد أن السيرة النبوية، بمدلولها الشامل الذي يستوعب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته قولا وفعلا وتقريرا، تُمدّنا بالنموذج الذي يتيح لكل باحث عن السعادة أن يحذو حذوه
حميد بن خيبش
قبل ما يزيد عن قرن أعلن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه موت الإله، لكنه لم يترك مربع الإيمان فارغا، بل نصّب الإنسان بديلا، وصيّره معبودا لنفسه. كان نيتشه يعلن نقمته على منظومة القيم المسيحية واليهودية التي قيّدت حريته الفكرية، وحرمت أبناء الرب من ثمار الحضارات الأخرى.
يرى الباحثون في عالمه الفكري أنه أبدى توقه لما تزخر به الحضارة الإسلامية من ميزة وتفرد؛ غير أن ذاك الإعلان الذي مهّد، ضمن عوامل أخرى طبعا، لعالم الحداثة والتمرد وقلب الثوابت، فتح بابا من أبواب الجحيم على البشرية، حين أطلق الإنسان العنان للفوضى تحت مسمى الحرية، وأعلن مذهب القوة وشريعة الرجل الأبيض مسطرة كونية، تدار وفقها مصائر الشعوب والأمم.
تفاقمت مظاهر تيه الإنسان المعاصر وخوائه، بدءا من تحرير الاستهلاك والاستمتاع دون حدود، وصولا إلى تدمير صور التعايش والسلم بفعل أوهام القوة والسيطرة. وكان للحربين العالميتين، والمآسي التي تسببت فيها القوى الاستعمارية تبعات روحية ونفسية خطيرة، لا تزال الدول الكبرى تجتر مظاهرها حتى اليوم.
أفرط الإنسان في استعراض قوته وتمرده، لأنه لم يجد حائطا للقيم يُسند عليه ظهره، سوى ما صاغه بنفسه لتبرير جنونه. صحيح أنه هدم سلطة الكنيسة التي أدخلته عصر الظلمات، غير أنه لم يعثر على كوة ينفذ منها النور، طوال مسيرة بحثه المتواصلة، إلا بعد أن شرعت نخبته الفكرية والأكاديمية، وبشكل يتزايد صيته الإعلامي، في تفكيك الصورة المغلوطة عن الإسلام، والقرآن، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
نقل السخاوي في (فتح المغيث) عن الإمام سفيان الثوري قوله: ” إن استطعت ألا تحكّ رأسك إلا بأثر فافعل!”. ظاهر القول يحيل على ما في منظومة القيم الإسلامية من جواب كاف، ودواء شاف لكل الأسئلة والأوضاع التي يواجهها المسلم؛ غير أنها من جهة أخرى، بمثابة دعوة صريحة للتمسك بالمرجعية، ومواصلة التنقيب والبحث لتنسجم متطلباتنا الروحية والفكرية والسلوكية مع ثوابتها.
لقد حفظ الحق سبحانه كتابه الكريم، بينما خضعت السنة النبوية لأعظم عملية تدقيق في تاريخ البشرية. وعلى مدار أربعة عشر قرنا، توفرت مكتبة ضخمة من جهود العلماء والفقهاء والمتكلمين، لإرساء بناء قيمي موصول بالنبع الرباني، مصداقا لقوله تعالى: { {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}} –الإسراء: 9-. هذا البناء، بالإضافة إلى ربانيته، تعرض لمعالجة نبوية كي يستجيب للفطرة السليمة في كل مكان وزمان، حيث اقتضت خاتمية الرسالة أن تكون منظومة الأخلاق والآداب أكمل وأوفى بحاجات الإنسان. هكذا تصدت المعالجة النبوية لمسألة القيم وفق ثلاث مداخل:
– رفض القيم المنحرفة والمشوهة، والقضاء عليها قضاء مبرما.
– إقرار القيم والأخلاق الحسنة السائدة والمتعارف عليها.
– إعلاء هذه القيم بتحريرها من المنفعة الضيقة، وربطها بالثواب الإلهي. (1)
لمقولة الثوري دلالة أخرى تتعلق بتحقيق معنى الاتباع، وأن محبة الله ورسوله مقرونة باستيفاء هذا الشرط، مادامت الشريعة تستوعب كل احتياجات العمر الزمني للإنسان على هذه الأرض ومقومات سعادته. وفي مقابل الاتباع ينتصب الابتداع كمدخل شيطاني، يوهم المسلم المعاصر بنسبية هذا البناء القيمي، وعدم تجاوبه مع مقتضيات العيش في عالم متقدم.
زعم بول فاليري أن القيم كالقمح والذهب، تنخفض وترتفع وفق الأمزجة، أو الهلع الذي يدبّ في الأسواق. ويلخصّ هذا الادعاء أزمة القيم في عالم يُخضع كل شيء للموضة والأهواء. لاشيء ثابت، وللإنسان الحق في أن يُجرّب كل شيء، وأن يتحرر من كل التزام.
في المقابل، نجد أن السيرة النبوية، بمدلولها الشامل الذي يستوعب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته قولا وفعلا وتقريرا، تُمدّنا بالنموذج الذي يتيح لكل باحث عن السعادة أن يحذو حذوه، ويقتفي خطاه. ففي كل تفاصيلها وأحداثها نلمس تلك الترجمة الإنسانية العميقة لتعاليم الوحي الإلهي، والحرص على التوازن المستمر بين الديني والدنيوي، وتحقيق العمران البشري دون إخلال بمطلب الرغد والطمأنينة.
أن تحكّ رأسك بأثر معناه ألا تنعزل محبتك للرسول صلى الله عليه وسلم في وجدانك، وإنما يكون لتعاليمه صدى في تصرفاتك، فيظل حيا بمنهجه وإن غابت عنك ذاته الشريفة. على هذا الأساس وحده تقاس محبتك للنبي وانتسابك للرسالة، وبدونه تنفك الرابطة.
وأن تحك رأسك بأثر هو إقرار صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة، تتحرك في واقع الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد جربت البشرية حتى يومنا هذا مُثل الفلاسفة وأفكارهم، وسير الفاتحين وبطولاتهم، لكنها لم تجد ذاك النموذج الذي تكتمل داخله كل الصور:
صورة القائد الذي يخطط ويدير المعارك؛
وصورة السياسي الذي جعل من القبائل المتناحرة أمة مسددة الخطى والغايات؛
وصورة الزوج ورب الأسرة الذي جعل من النظرية التربوية حقيقة واقعة؛
وصورة الإنسان الاجتماعي البسيط الذي يأكل مع أصحابه ويشرب معهم، ويقاسمهم كل شؤون الحياة صغيرها وكبيرها ليهتدوا بهديه.
” إن الرجل لا يكون عظيما داخل بيته، ولا بطلا في أسرته”، يقول فولتير، في إشارة منه إلى أن الأقارب المطلعين على أسرار الرجل وتفاصيل حياته الخاصة لا يُقرّون بعظمته كسائر الناس. بينما كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وابنه بالتبني وصديقه هم أول من آمن بنبوته وصدّق دعوته.
يقول سيد سليمان الندوي:” إن أعظم الناس لا يأذن لزوجه-إن كانت له زوج واحدة- أن تحدث الناس عن جميع ما تراه من حليلها، وأن تعلن كل ما شاهدته من أحواله، لكن رسول الله كانت له في وقت واحد تسع زوجات، وكانت كل منهن في إذن من الرسول بأن تقول عنه للناس كل ما تراه منه في خلواته.. فهل عرفت الدنيا كهذا الرجل، يثق في نفسه كل هذه الثقة؟”(2)
نعم، لا يملك منصف عاقل إلا أن يثق بهذا الرجل كل الثقة، وأن يقتفي أثره حتى في حك رأسه!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- د. جابر قميحة. المدخل إلى القيم الاسلامية. دار الكتاب المصري 1984
2- سيد سليمان الندوي: الرسالة المحمدية. ص95
Source link