إن أعظم ما تملكه في هذه الدنيا هو إيمانك، فإن ضاع منك، ضاع كل شيء! فإياك أن تجعل للشك منفذًا إلى قلبك، وإياك أن تغفل عن خفافيش الظلام الذين ينفثون سمومهم في العقول، فإنهم لا يأتونك بالسيف، بل بالكلمة الناعمة، والعبارة المزخرفة
إنها معركةٌ قديمةٌ جديدةٌ، لم تهدأ رحاها منذ أشرقت شمس الإسلام، لكنها اليوم تتخذ أشكالًا أشدَّ دهاءً، وأسلحةً أكثر خفاءً! فبينما يقف بعضهم في وجه الدين صراحةً، مُعْلنين عداوتهم له، يندسُّ آخرون في الصفوف، يتظاهرون بالنصح، ويتكلمون بلسان المحبة، وهم في الحقيقة ينخرون في جدرانه، ويزرعون في النفوس بذور الشك والاضطراب! هؤلاء هم الأخطر؛ لأنهم لا يهدمون الدين بهجومٍ سافرٍ، بل يحاولون أن يفرغوه من داخله، حتى يظن الساذج أنه ما زال ممسكًا به، وهو في الحقيقة قد أمسك بالسراب! فكيف نكشف مكرهم؟ وكيف نُحصِّن عقولنا وأمتنا من هذا الداء الزاحف؟
إن الخصومة إذا كانت ظاهرةً مكشوفةً، سافرة الوجه، معلنة الحرب، فهي أهونُ وأيْسَرُ، وأضْعَفُ أثرًا في النفوس، وأسرع انكشافًا أمام العقول. أما إذا كانت متخفية، تتوارى خلف ستار من الأوهام، وتندسُّ بين الكلمات الناعمة، وتلبس لبوس الحق وهي تريد الباطل، فذاك هو الشرُّ المستطيرُ، وذلك هو الخطر الذي لا يُستهان به.
العدو الصريح والعدو المتستر:
لقد كان من أعداء الإسلام- منذ أن بزغ نوره- قومٌ يعلنون حربهم عليه، ويجاهرون بعداوتهم له؛ كأبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وغيرهم. فهؤلاء ما كانوا يمثلون الخطر الأكبر؛ لأنهم حين وقفوا في وجه الإسلام سيوفًا مجردة، لم يكن لهم من النفوذ إلى قلوب الناس إلا ما يملكون من سلطان القوة، وقد علم المسلمون أنهم أعداء، فحذَّروهم وحذَّروهم، وانفضَّ عنهم جمهور الباحثين عن الحق، ولم يكن لهم من الحيلة إلا الاضطهاد، فلما فشل اضطهادهم، ذهبوا إلى حيث ألقت رحلها أُمُّ قشعم!
أما الخطر الأعظم، فهو في أولئك الذين لم يجابهوا الإسلام صراحةً، بل تسلَّلوا إلى النفوس بلباس الناصحين، وتكلموا بألسنة المحبِّين، فتراهم لا يقولون: إن الإسلام باطل، ولكنهم يهمسون في الآذان: الإسلام كان مناسبًا لعصر معين، أما اليوم فالعقل هو الحَكَم! لا يقولون: إن القرآن ليس وَحْيًا من عند الله، ولكنهم يقولون: لا تأخذوا كل ما فيه على ظاهره، بل تأوَّلوه وفق ما تقتضيه «الحداثة»! لا يجحدون السُّنَّة، ولكنهم يشكِّكون في رواتها، وينبشون في التاريخ ليطعنوا في الصحابة الذين نقلوها!
لماذا خطرهم أعظم؟
إن الفرق بين الفريقين كالفرق بين جيش يأتيك تحت راية العداء، وجيش آخر يندسُّ بين صفوفك في لباس أهلك، فما تلبث أن تفتح له الأبواب، وتُسلم له القياد، حتى يفتك بك من الداخل!
إن المشككين، وأدعياء التجديد، والذين يتظاهرون بالغيرة على الدين وهم يسعون إلى تقويضه، أخطر على الأمة من أولئك الذين يعلنون الإلحاد؛ لأن الأخيرين مكشوفون، لا ينخدع بهم إلا من كان بعيدًا عن بصيرة الحق، أما الأوَّلون، فهم يلبسون لكل حال لبوسها، ويجعلون فتنتهم تنفذ إلى القلوب ببطء، حتى إذا تمكَّنت صعُبَ اجتثاثها!
وقد كان أهل النفاق في عهد النبوة هم أشد الناس خطرًا، حتى إن القرآن أفرد لهم سورًا كاملة، يفضحهم فيها، ويحذر المؤمنين منهم؛ لأنهم كانوا يخادعون المؤمنين، ويظنون أنهم يخادعون الله، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون!
كيف نواجههم؟
أما الرد على هؤلاء، فليس بالصياح في وجوههم، ولا بالتشدُّد عليهم في القول، فإنهم لا يصرِّحون بمقاصدهم، بل يتكلمون بلغة المراوغة والتلبيس، فلا بد من كشفهم وتعريتهم أمام الناس بالحجة والبرهان، وبيان ما وراء كلامهم من سُمٍّ زُعاف، فإنما يفسد الماء إذا خالطته النجاسة، وإذا صُفِّي منها وعاد إلى أصله، صار عذبًا فراتًا.
ومن أسلحة المواجهة، أن نُكثر من بيان صحيح الدين، وندعو إلى العودة إلى الكتاب والسُّنَّة بفهم السلف الصالح؛ لأن ضعف العلم الشرعي هو الذي أتاح لهم الفرصة للنفوذ إلى العقول.
وكذلك لا بد من صناعة جيل من طلبة العلم والعلماء، الذين يجمعون بين العلم الشرعي والعلم بواقع العصر، حتى يكونوا قادرين على كشف الشبهات قبل أن تستقر في العقول، فإن الشبهة إذا استحكمت كان اقتلاعها أصعب، وكان علاجُها أشدَّ مشقةً.
أهمية تفريغ طلاب العلم للذبِّ عن دين الله:
إن نشر العلم الشرعي وتفريغ طلاب العلم للذبِّ عن دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليس مجرد مهمةٍ عابرةٍ، بل هو واجبٌ عظيمٌ، تتوقف عليه حياة الأمة واستقامتها، وتُبنى عليه عزتها وكرامتها، ويكون به صمودها في وجه الفتن والمحن. إن العلم الشرعي هو النور الذي يُبدِّد ظلمات الجهل، وهو الدرع الذي يحفظ العقيدة من التبديل والتحريف، وهو السلاح الذي يدافع به أهل الحق عن حصون الإسلام ضد تيارات التشكيك والتغريب.
ولقد أدرك أعداء الإسلام أن المواجهة العسكرية وحدها لا تكفي، وأن السيف لا يهزم العقيدة، فجاؤوا بحربٍ من نوعٍ آخر، حرب تستهدف العقول والقلوب، وتزرع الشبهات بدل القنابل، وتدمر الإيمان بدل أن تهدم البيوت، فأصبح من الضروري أن يُفَرَّغ لهذا الجهاد رجالٌ يحملون لواء العلم، ويفرغون أوقاتهم لفهم نصوص الكتاب والسُّنَّة، ومقارعة الأهواء بالحجة والبرهان، ويقفون في وجه كل من يحاول أن يطعن في الدين تحت أسماء الحداثة والتنوير والحرية الفكرية.
إن الأمم لا تنهض إلا بالعلم، وإن أشرف العلوم على الإطلاق هو العلم الذي يربط العبد بربِّه، ويشرح له شريعته، ويدله على طريق النجاة في الدنيا والآخرة، فكيف يُترك هذا العلم ليتصدر الناسَ فيه الجهلةُ والمتكلمون بغير علم؟! كيف نأمن على ديننا وأجيالنا إذا لم يكن هناك رجال متفرغون لحمل هذا اللواء، يردون عنه الدين كيد المبطلين، وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؟!
إن تفريغ طلاب العلم، ورعايتهم، وإعدادهم إعدادًا متينًا، ليس رفاهيةً ولا ترفًا فكريًّا، بل هو ضرورةٌ حتميةٌ، وهو الضمان الوحيد لبقاء هذا الدين نقيًّا كما أنزله الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم محفوظةً كما بلَّغها للأمة. وإن من أعظم البر، وأعظم الجهاد، أن يعين المسلم على إخراج العلماء الربانيين، وأن ييسر لهم طريقهم، حتى يكون في الأمة دائمًا من يقول للمبطل: “أنت على باطل”، وللمشكك: “قف عند حدودك”، وللضال: “عد إلى سواء السبيل”. فحريٌّ بنا أن ندرك عظمة هذا الواجب، وأن نسهم – كلٌّ بما يستطيع – في إعداد حملة العلم الذين يكونون بإذن الله حصنًا منيعًا لديننا، وذخرًا لهذه الأمة في دنياها وأُخْراها!
يا عبد الله، إن أعظم ما تملكه في هذه الدنيا هو إيمانك، فإن ضاع منك، ضاع كل شيء! فإياك أن تجعل للشك منفذًا إلى قلبك، وإياك أن تغفل عن خفافيش الظلام الذين ينفثون سمومهم في العقول، فإنهم لا يأتونك بالسيف، بل بالكلمة الناعمة، والعبارة المزخرفة، حتى إذا استسلمت لهم، قادوك رويدًا رويدًا إلى الهاوية! فاثبت على الحق، وكن كالجبل الراسي الذي لا تهزه الرياح، واجعل بصيرتك في دينك أشدَّ من بصرك في دنياك، فإنما هي أيام قلائل ثم نلقى الله، فويل لمن جاءه بقلبٍ زائغٍ، وخزي لمن باع دينه ببريقٍ زائف، وسعادة لا تنقطع لمن امتثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: “قل آمنت بالله ثم استقم”!
يا أخي، إن هذا الدين أمانة، وإن الحق أبلج كالشمس في رائعة النهار، فلا تكن ممن يطفئون نور قلوبهم بأيديهم، أو يتركون لعقولهم أن تتقاذفها رياح الشبهات! تمسَّك بحبل الله المتين، وكن جنديًّا في صفوف المدافعين عن اليقين، ولا تخدعك الشعارات البراقة، ولا العبارات الملتوية، فإن دين الله لا يحتاج إلى تجديدٍ على أهواء البشر، بل البشر هم الذين يحتاجون إلى العودة إليه! فاثبت كما ثبت الصادقون من قبلك، وقلها بكل يقين: هذا ديني، وهذه عقيدتي، وهنا أقف، ولن أتزحزح قيد أنملة، حتى ألقى الله بقلبٍ ثابتٍ لا يخالطه شك، ونفسٍ مطمئنةٍ لا تخدعها الأوهام!
إن الحرب على الإسلام لم تتوقف يومًا، لكن العاقل لا ينشغل بالسهام الظاهرة، عن تلك التي تطعن من الخلف! فلنكن على حذر، ولنواجه هذه الموجة المتسللة بعلم وحكمة، فإن الحق لا يُهزم، لكن كثيرًا من أهله قد يُخدعون إذا لم يكونوا على بصيرة!
_________________________________________
الكاتب: سالم محمد أحمد
Source link