منذ حوالي ساعة
إنَّ القارئ لتاريخ الأمم والشعوب من خلال الوحي المنزَّل أو في مظانها من كتب التاريخ، يجد أنَّ نهضة الأمم منوطةٌ بالنُخَب الواعية العاملة وهي الأقل في المجتمعات، وليست مرهونةً بالغالبية العظمى الذين يعيشون على هامش الحياة، ولا يمثلون إلا رقمًا من الأرقام.
في مجلسٍ قريبٍ جمعني بعددٍ من صفوة المجتمع من خيرة العلماء والدعاة إلى الله تعالى، تجاذبنا فيه أطرافَ الحديث، وتناولنا أحوالَ المسلمين في بؤَرٍ مختلفة من العالم، لفتني أنَّ عامَّةَ الحديث كان يدور حول تعاظم الفتن في زماننا وكثرة المفتونين، وغفلة الناس وبعدهم عن دينهم، وذكر المشايخُ أشكالا وألوانا منها، وعرضوا لأفانين مختلفة من مكر الأعداء وكيدهم بهذا الدين العظيم، تجعل السامع يظنُّ لأول وهلةٍ أنَّ دين الله سيودِّعُ الحياةَ قريبًا، وأنَّ المسلمين في الرمق الأخير، وأنهم لن تقوم لهم قائمة بعدها.
وفي الواقع، هذا الخطاب بهذا النفس المتشائم متداوَل بكثرة في المجالس الحوارية والفكرية لدى المهتمين بالشأن العلمي والدعوي، والباعثُ عليه بلا شك هو غيرتُهم على دينهم وحزنُهم على نكَبات المسلمين ونكساتهم هنا وهناك.
ثم كانت لي فرصةٌ أن أُعلِّقَ بكلمة قصيرة حاولتُ من خلالها أن أعدِل الكِفَّةَ لصالح التوازن بين الألم والأمل، ودونكم الفكرة مقتضَبة بما يتلاءم مع منهجي في المقالات.
إنَّ القارئ لتاريخ الأمم والشعوب من خلال الوحي المنزَّل أو في مظانها من كتب التاريخ، يجد أنَّ نهضة الأمم منوطةٌ بالنُخَب الواعية العاملة وهي الأقل في المجتمعات، وليست مرهونةً بالغالبية العظمى الذين يعيشون على هامش الحياة، ولا يمثلون إلا رقمًا من الأرقام.
إنَّ أتباع الأنبياء عليهم السلام هم الأقل، وأعداءهم هم الأكثر على الدوام.
نوح عليه السلام: {وما آمَنَ معَهُ إلا قليل}!
موسى عليه السلام: {فما آمن لموسى إلا ذرِّيَةٌ من قومِهِ على خوفٍ من فرعونَ ومَلئِهم أنْ يفتِنَهُم}!
وطالوتُ الملكُ الذي بعثه اللهُ على الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، لم يثبُت معه في أرض المعركة حتى النهاية إلا نفَرٌ قليل من الصابرين: {فشربوا منه إلا قليلا منهم، فلما جاوزَه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقةَ لنا اليوم بجالوتَ وجنوده، قال الذين يظنون أنهم مالقوا الله كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين*فهزموهم بإذن الله وقتل داودُ جالوت}!
كثيرة هي الآيات التي تفيد هذا المعنى.
(وما أكثرُ الناس ولو حرصتَ بمؤمنين)
(بل أكثرُهم لا يعلمون الحقَّ فهم معرضون) …الخ
ولو قفزنا إلى عصر الصحابة الكرام سنجد أنَّ الذين كان لهم الدورُ المؤثر والحاسم نخبةٌ منهم، والآخرون تبع لهم.
لقد كان للمنافقين في المجتمع المسلم الناشئ في المدينة صولات وجولات، وأقاموا مسجدهم الضرار، ورجع زعيمُهم بثلث الجيش يوم أحُد، وجاؤوا بالإفك العظيم وطعنوا بعِرض سيد المرسلين، وتواطئوا مع يهو.د، ولم يمنع ذلك من ظهور الحق وأهله وقيام دولته!
لقد جزَم الإمام المحَدِّث أبو زُرعة الرازيُّ أنَّ عدد الصحابة الكرام الذين ينطبقُ عليهم وصفُ الصحبة يزيد عن مئة ألفٍ وأربعةٍ وعشرين ألفا.
فلو سألتك الآن وأنت طالبُ علم، كم عدد من يمكنك إحصاؤهم بأسمائهم من هذا الجَمِّ الغفير؟!
حتى لو كنتَ متخصِّصًا في علم الحديث، هل تُراكَ تحفظُ مئةَ اسمٍ من عُمومهم؟!
هل تعلم أنَّ عددَ رواةِ الحديث في الكتب الستة هو (548) صحابي، و(85) صحابية!
وأنَّ عددَ من روى مئةَ حديثٍ فأكثر هم (37) فقط !!
هل تعلم أنَّ عدد من روى ألفَ حديثٍ فأكثرَ هم سبعةٌ فقط !!
إذَن لم يكن كلُّ الصحابة الكرام رواةً للحديث، بل تحمَّل هذا العبءَ نخبةٌ قليلةٌ منهم فحسب، وقاموا بالمهمة خير قيام، وحفظ الله بهم السنة الشريفة من الضياع.
إنَّ الأمة لا تحتاجُ إلى ملايين من القادة والعلماء والمحَدِّثين والمفكرين لتعود إلى ماضيها المجيد وعزِّها التليد، بل يكفي أن يكون فيهم نُخَبٌ قيادية قوية ومؤثرة في كلِّ مجال، وسيكون بقية الناس تبعا لهم.
وهذه هي الحالة الطبيعية للبشر على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم.
يؤكد لنا هذا المعنى نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: (الناسُ كإبلٍ مئةٍ لا تكادُ تجدُ فيهم راحِلة).
ويؤكد لنا الواقع ذلك كذلك، فمن يعتقد أنَّ جميع الشعب الأمريكي ملهَم ومثقف ولديه وعي سياسي وتخطيط استراتيجي فلا شك أنه جاهل واهم.
وكل من يظنُّ أنَّ الشعب الياباني بأسره ذكيٌّ ومبدع وقادر على الاختراع والابتكار فهو أحمق.
وهكذا الشأن مع كل الدول المدنية الحديثة اليوم، إذا زرتها وخالطت أهلها سوف تُصدم بكثرة من تصادفهم من الهمج الرعاء الذين يعيشون على هامش الحياة، فلا تلمس فيهم علما ولا عقلا ولا أدبا، وقد ابتعدوا عن الدين والقيم الفاضلة، وأصبح أكبرَ هَمِّ أحدهم أن يُشبع رغائبَ نفسه وشهواتها.
ومجتمعاتنا المسلمة ليست استثناءً من هذا البلاء العام الذي نزل بالبشرية، وتمثل بموجات جارفة من طغيان المادة والإلحاد، وشيوع الفواحش والبعد عن الدين والأخلاق، ومع ذلك فإنَّ حظَّ الأمة الإسلامية من هذا الفساد والانحطاط هو الأدنى نسبيًا ولله الحمد.
جمال الباشا
مؤهلات الشيخ جمال بن محمد الباشا: ماجستير في القضاء الشرعي، دكتوراه في الفقه وأصوله، رسالة الدكتوراه في السياسة الشرعية، مدرس في أكاديمية العلوم الشرعية.
Source link